الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

لا تبحثوا عن القتيل ابحثوا عن القاتل

زيـاد بـارود
A+ A-

عام 2004، كتبت في "الملحق" متناولاً حيّزاً من أحوال نظامنا غير النظامية وغير المنتظمة. يومذاك، اختار عقل العويط عنواناً لمقالي خشيتُ فيه المبالغة، وكان العنوان: "دولة لبنان الفاسدة". بعد سنوات على هذا "الارتكاب"، وبمعزل عن تفاصيل كثيرة، يبدو أن الدولة استحقت (بجدارة؟) نعتها المذكور، بل باتت، بعد الفساد، تتجه بخطى (أكيدة؟) نحو الفشل، فيصحّ عنوان "دولة لبنان الفاشلة"! الحقيقة أني تردّدتُ كثيراً متسائلاً: هل الدولة هي الفاسدة والفاشلة والغائبة في كلّ حال؟ أم إنها حكومات متعاقبة امتهنت كلّها، منذ 1943، تصريف الأعمال بمعناه الواسع؟ هل الدولة، بما هي دستور وتشريعات وأنظمة ومؤسسات ومواطنات ومواطنون، هي التي فشلت أم أن شكسبير كان على حق عندما كتب: "إذا كانت حالنا في تدنٍّ، فالحق ليس على النجوم"؟


لا بأس إن فشلت الدولة في أمر ما. ولا بأس إذا فشل اللبنانيون أحياناً في أمور. لكن الخطير هو إعادة إنتاج الأخطاء نفسها التي أدّت إلى هذا الفشل. الخطير هو عدم التدقيق في هذا الفشل وعدم إجراء تقويم للحال والأداء، والأخطر منه عدم اعتراف البعض بذلك الفشل، بل نسبته، في أفضل الأحوال، إلى الغير، إلى "الفريق الآخر".
جزء من حالنا الصعبة والمتعثرة يرتبط بالإقليم وتحدياته، وقد تعاظمت في الفترة الأخيرة، فيما الجزء الآخر يرتبط، من دون أي شك، بكيفية إدارة الاختلاف والخلاف والنزاع في السلطة وعليها. بقيت بلجيكا 547 يوماً من دون حكومة وكانت أزمة، لكنها بقيت أزمة تأليف ولم تضرب الاستقرار ولم تضرب الاقتصاد ولم تضرب الأمل عند الناس. أخطر ما في الأزمة اللبنانية أنها تغتال الأمل في النفوس وتُنتج إحباطات متنقلة بين الناس وتهشّم في مفهوم الدولة وتزعزع مؤسساتها.
أزعم – والزعم يقبل النقاش- أن أزمتنا، في شقّها الداخلي على الأقل، ليست أزمة نظام بالمعنى الجاري تداوله. هي ليست أزمة ناتجة من برلمانية نظامنا، مثلاً، ولا هي ناجمة عن طائفية النظام حصراً. هي، باختصار كلّي، أزمة إدارة تنوّع! فأن يكون لبنان متنوّعاً طائفياً وسياسياً وفكرياً وثقافياً، إنما غاية الغنى، وها هي الأنظمة الأحادية تسقط تباعاً وتسقط معها أحزاب الـ99.99 في المئة التي حكمت على نغمة قوانين الطوارئ على مدى عقود. وفي زمن الفضائيات والتواصل الافتراضي العابر للحدود، فإن كل المجتمعات ذاهبة في اتجاه التنوع ولا يمكن البعض تالياً أن يختصر أزمة لبنان بتنوّعه. وإذا كان الدستور ومقدمته قد حسما بأن "لا شرعية لأية سلطة تناقض صيغة العيش المشترك"، فإن الحسم المبدئي دون التطبيق. وفي التطبيق، ثمة كلمات ثلاث جوهرية في ما تقدّم لا بدّ من التوقف عندها: السلطة والصيغة والعيش المشترك. أبدأ بالصيغة وأنتهي بالسلطة مرورا بالعيش معاً.
أما الصيغة، فشكل من أشكال الحكم التي تختارها مجموعة من الناس عندما يبنون دولة. صيغتنا هي تلك التي اختارها المؤسسون وقد عبّر عنهم ميشال شيحا أبلغ تعبير عندما كتب، عن حق، أن لبنان "هو وطن الأقليات المتشاركة". شتّان بين تشارك الأقليات وبين تحالفها، في المناسبة... التشارك فعل إرادي، وهو يعلو العيش المشترك معنىً. وهذه الصيغة التي تمحورت حول الميثاق الوطني لعام 1943 جعلت من لبنان دولة ديموقراطية، على علاّت ديموقراطيته وفتوّتها، في زمن الديكتاتوريات المحيطة والأبعد. وهذه الصيغة سمحت بالتشارك إلى أن أجهضها بعض المتشاركين بأن استبدلوا عقلهم بعضلاتهم و/أو رفضوا التشارك في السلطة والقرار على نحو عادل، فذهبوا إلى الخارج استقواءً وضربوا في الداخل استقراراً. هل الصيغة، بما هي تشارك، هي التي تحتاج إلى إعادة نظر (كما هو متداول) أم إدارة هذه الصيغة بحيث تنتج غنىً بدل أن تنتج تشنّجاً؟ وهل لبنان فريد في العالم في اعتماده صيغة تشاركية (consociative)؟ وكيف استطاعت دول أخرى أن تدير تنوّعها الإثني واللغوي والعرقي والديني؟ وما البديل من الصيغة التشاركية، على فرض رفضها جدلاً؟ اللهم إلا إذا كان البعض يذهب في جذريته إلى حدّ إلغاء التنوّع ضمن الوحدة، عندها يكون موضوع آخر تسقط فيه الدولة التي نعرف ولبنان الذي نريد... هذا، على مستوى الصيغة.
أما السلطة، فتستمد شرعيتها من السيادة الشعبية، من الناس (أو هكذا من المفترض أن تكون)، وهي تالياً تستمد شرعيتها، في نظام برلماني، من الانتخابات التي تأتي بها. وهنا الأزمة: أزمة قانون الانتخاب الذي يدور فيه المقصّ دورته والذي يصنعه بشر، لدى معظمهم نقاط ضعف ترتبط إجمالاً بالجلوس المستدام. قانون الانتخاب شديد الحساسية والتأثير في إنتاج السلطة، تلك السلطة التي من المفترض أن تحمي الصيغة، صيغة التشارك متنوّعين ضمن الوحدة. فبقدر ما تكون تلك السلطة تمثيلية فعلاً (بمعنى صحة التمثيل)، وبقدر ما تكون معبّرة عن أوسع مروحة ممكنة من التنوّع حتى ضمن "النوع" الواحد، تكون بالقدر نفسه قادرة على حسن إدارة الصيغة وحمايتها. لذلك، فإن قانون الانتخاب ينبغي أن يلبّي هذا الهدف، فيحترم التنوّع، بل يظهّره، في الدوائر وفي النظام الانتخابي وفي الجندرة وفي ما سوى ذلك من تعابير ديموقراطية. من هنا المدخل إلى معالجة الأزمة. ثمة ثغر دستورية؟ نعم، من دون أي شك. ثمة حاجة لتعديلات دستورية بهدف انتظام الحالة السياسية. نعم، من دون أي شك. ولكن... مَن المخوّل سدّ الثغر وإجراء التعديلات، إذا لم تكن تلك السلطة المنتخبة التي تعبّر فعلاً عن نبض الناس وطموحاتهم، بصورة تشاركية أيضاً وأيضاً؟ كيف ندخل إلى الأساسيات من دون الأساس، أي من دون الشرعية الشعبية؟ خصوصاً عندما تؤول الشرعية الشعبية لتصبح، لا مجرّد أكثرية تحكم أقلية، بل تشاركاً بين المكوّنات المختلفة واستيعاباً لها.
في المبدئيات والأساسيات، لا بأس من التذكير بما جاء به الدستور الأردني في تعديل عام 2011، حيث ورد في المادة 128 منه: "لا يجوز أن تؤثر القوانين التي تصدر بموجب هذا الدستور لتنظيم الحقوق والحريات في جوهر هذه الحقوق أو تمس أساسياتها." بالفعل، ثمة أساسيات وضمانات دستورية لا يمكن أي قانون أن يضربها في معرض تنظيمها، من حرية الجمعيات إلى حرية المعتقد (المطلقة في الدستور اللبناني) إلى سواها من الحقوق والحريات المرتبطة بقانون الانتخاب.
لذلك أزعم – أيضاً- في الخلاصة، أمرين:
- الأول، أن أزمة النظام اللبناني ليست أزمة بنيوية تكوينية بقدر ما هي أزمة إدارة. البنية التحتية مقبولة، أما تعبيد الطريق فيشبه فسادنا، وشرطي السير غالباً ما يغيب أو إنه لا يجيد في السير تنظيماً. تالياً، فإن الحديث عن سقوط النظام السياسي اللبناني ينبغي أن يتناول بالحري السلطات المتعاقبة التي حكمت هذا النظام وتحكّمت به بدل أن تحكمها، هي، أساسيات النظام ومبدئياته وجوهره. فلنبحث في تكوين السلطة ولنقارب أزمة النظام من هذه الزاوية بالذات، ثم نقوّم ونرى.
- الثاني، أن أي نظام سياسي لا بد أن يحتاج إلى تطوير. ونظامنا يحتاج إلى أكثر من مجرّد عملية تجميلية. لكن مسؤولية التطوير لا بد أن تلقى على عاتق حالة تمثيلية حقيقية، شاملة، ميثاقية، إستيعابية للتنوع القائم، السياسي منه والفكري- الثقافي قبل الطائفي!
انطلاقا من هذه المسلّمات، لا أرى إمكاناً لقراءة ثانية نقدية وتعديلية لنظامنا السياسي إلاّ انطلاقاً من سلطة منتخبة على قواعد تمثيلية صلبة تعبّر فعلاً عن نبض الناس وآمالهم، إنتظاراتهم وهواجسهم، إستعداداتهم ومخاوفهم. لهذه الغاية يبدو قانون الانتخاب، المعلّق على حبال الانتظار والتأجيل، حجر الزاوية في بناء الثقة. ولا يغيب مجلس الشيوخ عن هذا المشهد، ولو استوجب ذلك تعديلاً في الدستور، فينتخب الشيوخ مع انتخاب مجلس النواب. في موازاة ذلك، تكتسب اللامركزية موقعاً متقدّماً في مقاربة النظام السياسي، وهي، مذ دخلت في اتفاق الطائف حيّز الإجماع، باتت جزءاً من الإصلاحات الهيكلية الضرورية في مبنى المجتمع السياسي والتنموي اللبناني، وواحدة من آليات إدارة التنوع ضمن الوحدة. إصلاح النظام وتطويره يمر عبرها إلزامياً.
هذه كلّها عناوين تحتاج إلى بلورة ونقاش وتطوير. لكن المنطلق يبقى التقويم ثمّ الاعتراف بأن أخطاء ارتُكبت ومن ثم التصميم على تكييف الحالة الدستورية مع حاجات حسن إدارة الدولة. هذا، إذا صدقت النيات، لأن أفضل الدساتير في العالم تستحيل مجرّد أوراق مضجرة إذا لم يقترن النص بالممارسة. نظامنا لا يزال مشروع دولة، ودولتنا ستبقى مجرّد مشروع طالما المحاسبة غائبة والمساءلة خجولة. على أحدهم أن يتحمّل مسؤولية الفشل. فشل الإدارة لا فشل الدولة. عودٌ على بدء: الدولة الفاشلة؟ لا تبحثوا عن القتيل، إبحثوا عن القاتل!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم