الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

العواء في سبيل الخبز

سمير عطاالله
A+ A-

لم يعد أحد يحصي عدد الضحايا في سوريا: أكثر من "مائة ألف" تقول البيانات، كأنما ما هو فوق المائة ألف مجرد "فراطة" لا حساب له. الأسوأ من الحروب لغة الحرب. يقول الشاعر الصربي تشارلز سيميك إنه طوال الحرب العالمية (الثانية) كانت العائلة تجد ما تأكله. بعد الحرب صار عندما يعود إلى البيت يسأل أمّه: ماذا من أكل؟ فتُدير وجهها باكية. الحروب لا تخلّف شيئاً إلاَّ لأمرائها.


تسود في الحروب لغة من جليد ودماء. تُفكَّك الكارثة الكبرى إلى أرقام تنشرها دوائر الإحصاء، وهي دائماً دون الحقيقة بكثير. ولكن مثل المناخ، يبلغ الطقس درجة لا يعود مدى صعودها أو هبوطها مهماً. الفارق بين 30 درجة (تحت الصفر أو فوق الصفر) 50 درجة، نفسي، لا حسّي. لذلك يُقال لك نحو 40 درجة، مثلما يُقال نحو مائة ألف قتيل. لأن نحو، هذه، لا تريد تحمّل مسؤوليّة المفقودين الذين لن يظهروا، والجرحى الذين سيموتون في ما بعد، والأحياء الذين لن يكونوا قادرين على أن يطيقوا الحياة، بعد كل ما فقدوا، وما شهدوا، وما شرِّدوا، وما أُذِلّوا.
هذا النوع من الحروب، فيه منتصر واحد: الموت. وخصوصاً موات روح الأحياء. لا يبقى شيء حيّاً: لا الكرامة، ولا النفوس، ولا العقل. "جهاد النكاح" في فقيرات سوريا غطاء – أو غشاء إذا شئت – زائف لما حدث بعد الحرب. المرأة في برلين، أو في فرصوفيا، أو حتى في باريس. تتساوى الإلفة البشرية بغداء أو "كروس" سجائر أو جوارب نايلون. أو أقل.
في هذه الأمة الغاشية من رائحة الموت والغطرسة والركام والانهيار، هناك جهاد نكاح، وجهاد حلب، وجهاد القصير، وجهاد الأماكن السياحية في سوسة تونس. وليس هناك ذكر لفلسطين. يستطيع اللاجئ الفلسطيني أن يفاخِر بأمرين: الأول، أن مخيماته ثابتة، بل موقتة، مثل مدن المقابر في مصر. الثاني، أن الذي شرّده إسرائيل.
هل بشع هذا الكلام؟ أبشع ما فيه، أنه حقيقي. أفدح ما في الأمر أن المأساة العربية الحالية لم يعد يحدُّها العقل. لا في جنونها، ولا في عنفها الهمجي فوق المتوحش، ولا في تلحّف نزعة القتل بفظاعة الفتاوى. يجب أن نصدّق أن هناك فتوى بإباحة لحم القطط والكلاب، في المناطق السورية المحاصَرة. في أوروبا، خلال الحرب وبعدها، أكلوا الفئران. لا حاجة إلى فتوى، لأن لا وقت لها.
"السنة صفر، تاريخ العام" 1945 للأكاديمي الهولندي إيان بوروما، يقزِّم في روايته للحرب العالمية الثانية، "إلياذة هوميروس" في حروب اليونان. لا مخيّلة هنا، وإنما أفظع وأبعد مما يمكن أن يتخيّله العقل البشري. لكن هذه مشكلة العقل البشري منذ البداية: إنه لا يصدّق ما يمكن أن يفعله القلب البشري. أتحدث دائماً عن دريسدن وكأنه ليس لديّ مثال آخر. أجل، ليس لديّ مثال آخر عن مدينة قصفتها الطائرات البريطانية في النهار، والقاذفات الأميركية في الليل. طوال الليل، طوال النهار. المباني التي لم تسقط جدرانها بُقرت أرضها. لم يبقَ شيء ولا أحد. لم تعد هناك أرصفة لأنها غارت تحت الركام.
احتج القائد الألماني الماريشال فيلهلم كيتل على هذه الفظاعات وهو يوقِّع وثيقة الاستسلام، فقال له الضابط الروسي، ماذا كان شعورك وأنت تأمر بتدمير آلاف القرى في روسيا؟ خمسون إلى سبعين مليون قتيل، ما بين خروج هتلر على أوروبا وانتحاره في الخندق المصفّح في برلين، ولم تكن تلك الكارثة الكبرى، بل كانت في مَن بقي حيّاً ليشاهد ما خلّفته الحرب. الجزء الذرّي، أو الكيماوي منها، كان الأقل فداحة: 200 ألف ميّت ما بين هيروشيما وناغازاكي.
تحوّلت الدول المفترسة إلى دول محتلّة. صار نحو ثمانية ملايين ألماني مشرّدين في أوروبا، وشُرِّد اليابانيون في آسيا. وفي اليابان الجائعة وزَّعت السلطات التعليمات حول طريقة "إعداد الوجبات من الجوز والنخالة والجنادب والفئران، واستخدام النشارة في إعداد الحلوى". انتشرت الانتقامات القاسية في كل مكان. في أحد معسكرات الاعتقال في تشيكوسلوفاكيا كان الضابط التشيكي يُرغم أسرى الحرب الألمان على العمل 12 ساعة يوميا، مع وجبات دنيا، ثم يوقظهم في الليل ويأمرهم بالتجمّع في "الساحة" حيث عليهم أن يُغنّوا، ويُعوّوا، ويَزحفوا، ويَضربوا بعضهم بعضاً، وبعد ذلك أن يرقصوا.
هكذا سمعنا الأسبوع الماضي من مُعارض سوري ان الحواجز الحكومية تأمر العائدين من الأفران بربطة خبز، أن يُعوّوا، وإلاّ أُخذ منهم خبز العائلة. في حرب 1975 كانت طوابير الأفران أهم أهداف القتال الوطني: يجب أن يتذكَّر عدوّك دائماً أن للموت أنواعاً شتّى.
يقول لنا بوروما ان الجنود الأميركيين أداروا ظهورهم لعمليات الانتقام من الألمان، فيما راح الغاضبون يعلّقون لهم المشانق أو يُغرقونهم أو يضربونهم بالرفوش حتى الموت. في كانون الثاني 1945 أصدر الماريشال جوكوف، بطل الروسيا في الحرب، أمراً يومياً قال فيه: "إذا قتلتَ ألمانياً، اقتُل ألمانياً آخر. ليس هناك ما هو أكثر إضحاكاً من كدسة من الجثث الألمانية"! عُومل الألمان واليابانيون على أساس أن جريمتهم جماعية وليس من أبرياء بينهم.
الملايين طُردوا دون شفقة، لكن ذلك كان بين أعداء، وبعد ستة أعوام من القتل والأسلحة والمعسكرات. هناك سبعة ملايين سوري أُبعدوا عن منازلهم في دولة واحدة ووطن واحد. وهناك مدن كاملة مُحيت مثل دريسدن وكولونيا. هل أن الحروب الأهلية أكثر بشاعة من حروب الأعداء؟ هل هكذا يحمل رجل من طرابلس المتفجرات إلى المصلّين في مدينته؟ لقد كان جوكوف يثأر من الذين هاجموا بلاده ودمّروا شعبه واغتصبوا النساء وركلوا الأطفال وجوَّعوا العجَزة. فماذا يأخذ هذا النمسوي، الذي كان رقيباً في الجيش، إلى ستالينغراد ويُبيدها ويُجوّعها؟ ولكن هنا، نحن أمام حامل قنابل من طرابلس نفسها، وربما ذهب إلى تأدية صلاة الجمعة في مسجد ليست أمامه سيارة مفخخة، في الجهة المقابلة.
إحدى الذرائع التي دَفعت الى إحراق لبنان العام 1975 كانت مدن الصفيح وأحزمة البؤس. لا مدن صفيح اليوم، بل مدن من الخيام والكتّان، نشرتها المأساة السورية في حرّ الصيف ووحول الشتاء. هل هناك ما هو أقسى؟ نعم. محامو الفحش السياسي الجماعي على التلفزيونات. كأنما قدَر العربي أن يُولد في بيت ويعيش في خيمة. كأنما هذا هو حظّه، ليس في الصحراء، بل في مدنه، المُشبعة ذات يوم بصناعة التاريخ وتطريز الإمبراطوريات من دمشق إلى القاهرة، مروراً ببغداد، التي انتقلت من الاحتلال الأميركي السفيه مثل جورج بوش وديك تشيني وزمرته، إلى التخلّي الأميركي والنظارتين السوداوين اللتين اللتين يحجب بهما باراك أوباما رؤية التحلّل الدولي في مجلس الأمن...
كان العراق – وليس لبنان ولا مصر – أول من قدّم التلفزيون في العالم العربي. لم تكن في بغداد فنون القاهرة أو بيروت. ولا هو أُنشئ من أجل المسرح أو الغناء، بل عندما سمع الامير عبدالإله، الوصيّ على العرش، بذلك السحر الجديد، ذهب إلى بريطانيا للتفاوض عليه، من أجل هدف أساسي: استخدامه وسيلة لتثقيف ضبّاطنا، ولو أدّى ذلك إلى أن ينقلبوا علينا بعد التعرّف إلى ما وصل إليه العالم.
لم ينتظر الضابط عبد الكريم قاسم ما سينقله التلفزيون. خرج من الثكنة إلى الإذاعة، ومن الإذاعة إلى القصر الملكي، ليذبح كل مَن فيه. كان العقيد الزعيم، حسني الزعيم، قد دمَّر من قبل، الحياة السياسية في سوريا. وفي مصر انتشر الترانزيستور الياباني في الحقول والتِرع. استخدم العربي الحداثة الفنية لإلغاء الحداثة الفكرية. أعلنوا البرلمان لإلغاء الديموقراطية. صارت للتلفزيون مهمّة واحدة: تمجيد الزعيم الأوحد، والمفكّر الأوحد. كان ياسر عرفات يروي أنه قام بزيارة الرئيس العراقي أحمد حسن البكر، قبيل الساعة الثامنة من مساء أحد الأيام، فلاحظ أن مضيفه لا يصغي إليه، وأن عينه على التلفزيون. فتوجّس. هل ينتظر البكر انقلاباً ما؟ عند الثامنة انفرجت أسارير الرئيس، وظهر على الشاشة شاعر شعبي يُلقي قصيدة عصماء في مدحه.
تؤدّي آخر أدوات التكنولوجيا في العالم العربي دور الأفيون والسمّ: في التلفزيون وفي الإنترنت وفي الهواتف النقالة وعلى الشاشات الضوئية. تحوّلت جميعها إلى مسارح حروب موازية تتبادل الكذب والحقد والتهليل للموت والدمار والمجاعة. كل فريق يقدّم أسوأ، وليس أفضل، ما عنده. الشاشات مشرَّعة أمام الشتّامين ودُعاة الدمار ومحامي القتل وما من أحد يريد سماع أي صوت آخر أو أي دعوة أخرى. مجموعات القرون الوسطى تطلّ دفعة واحدة من خلال مخترعات بيل غيتس وستيف جوبس وفيسبوك وتويتر وسواها ممن تعرفون ولا أعرف، لكي ترفع رايات الدماء ودعوات الكهوف وجهاد النكاح.
ماذا حدث عندما أُعطينا شيئاً من الحرية؟ في العراق سادت القنابل، وفي ليبيا خَطفت مجموعة من الوزراء رئيس الحكومة، وفي تونس استُبدل فساد عائلة زين العابدين بن علي وعائلة زوجته بفساد عموم عائلات الائتلاف الثوري الجديد، وفي مصر لم يعد في إمكان المرء الخروج من منزله - ليس بسبب منع التجول – بل بسبب تجول الزعران والفتوّات.
هل يعني ذلك أننا لا نستحق الحرية؟ لا. يعني أننا تأخرنا طويلاً في الوصول إليها. فلما طرَقنا بابها أخيراً لم نعرفها ولم تعرفنا. غرباء عن كل ما هو عصر وتقدّم وقوانين بشريّة. نحن نفضّل قوانين السماء، ووفقاً لتفسيرنا فهي خيام وأكباد وجهاد نكاح وقاصرات ونسف المصلّين، في الجوامع أو خارجها.
هل هذا ما كنت تتوقعه عندما كنت تحلم لأمّتك؟ أو بأمّتك؟ هل هؤلاء هم الرجال الذين كنت تتأمّل وصولهم؟ هل كنت تصدّق أنك سوف تفيق ذات يوم لترى أمّتك نائمة في الخيام تأكلها الوحول وأن هناك ما هو أسوأ؟ العيون البيضاء التي لا مآقٍ لها على التلفزيونات.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم