الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"حديقة الستين" لجودت فخر الدين \r\nيحيا الشاعر بالكلمات عارفاً أن داءه الحميم هو الشعر

عقل العويط
عقل العويط
"حديقة الستين" لجودت فخر الدين \r\nيحيا الشاعر بالكلمات عارفاً أن داءه الحميم هو الشعر
"حديقة الستين" لجودت فخر الدين \r\nيحيا الشاعر بالكلمات عارفاً أن داءه الحميم هو الشعر
A+ A-

في "حديقة الستين" (دار الريس للكتب والنشر) لجودت فخر الدين، يتقدّم الشاعر في بستان ذاته، مثلما تتقدّم القصيدة في بستان ذاتها، ليصنعا من الأعمار والفصول حديقة، سمتها النضج والسيولة والطبع المغمور بحنكة الحياة الموزعة بين الريف والمدينة وموسيقى الألفة والنضارة والاعتراف.
على غرار الحدائق، تحفل "حديقة" الشاعر بالأشجار والنباتات والظلال، ولن تتوانى عن الاستعانة بالسماء والهواء والغيوم والأمطار والظلال، وبما يتلاءم مع ذلك كلّه من لغة الأحلام والذكريات والتخييلات، مقطوفةً بإيقاعات حنونة، لا فظاظة فيها ولا صلف. إلا أن هذه الحديقة بقدر ما تومئ إلى الطبيعة، تتخذ من حديقة العمر خلفيةً لشتى "المرويات" التي لا تحكي الحياة ووقائعها وحوادثها وذكرياتها و"أبطالها" العائليين إلاّ لتستدعي الشعر المقيم في كلّ شيء، وفي كلّ مكان، وفي كلّ كائن حميم، على مرمى من ذاته الملطّفة بمعجم الزمن ورحيقه. إذ ليس خافياً أن الديوان برمّته يستدعي العمر لكن بلا ندم. فهنا تأخذ المصالحة مع شعرية العمر مداها، وتحتفي بألفة التحولات، حيث لا إحساس بالخيبة، ولا رغبة في الانتقام والثأر من أيّ وقتٍ هارب. فهذا الهدوء الروحي المشهود يجعل الجملة الشعرية متوائمةً مع إيقاعاتها، مدوزَنةً بما يتلاءم مع مستلهماتها من الحنين، وهي كلّها من "حواضر" العيش اليومي والوجودي البسيط وغير المتكلف. مثل هذا التلاؤم يأتي نتيجة مراسٍ دؤوب يمكّن قصيدة التفعيلة الحرّة من أن تكون "مرآة" دفينة، من صفاتها الحسنى أنها لا تكتفي بإيقاعات الإذن والبصر بل تتطلّع إلى ما هو أبعد، بحيث تُرى البصريات وتُسمَع بالاستدعاء والتخييل والحلم والحنان.
لا ضجيج ولا صخب في قصيدة جودت فخر الدين، وأعني حديقته. القصيدة داخلية، جوّانية، حميمة، أليفة، بسيطة، مائدتها الخبز والزيتون، وهما جوهرٌ يتفشّى بدلالاته الجمّة، مشيعاً مناخاً من الصفاء، أكاد أسمّيه الصفاء الصوفي، وهو ذروة التعبير عن المصالحة العميقة مع الحياة، معبَّراً عنها بالوقار حيناً، والامحاء حيناً آخر، وكلاهما يصبّان في معجم أكاد أقول إنه "عائلي" وحنون بامتياز، بسببٍ من الصداقة مع الكلمات، التي تبثّ أنفاسها ومشاعرها وأيضاً جروحها في أجواء الديوان.
بمَ تحفل "حديقة الستّين"؟ إنها تحفل بالتفعيلة، بالموسيقى، بالإيقاع، بالحياة الشخصية، بالعائلة، بالزوجة، بالأب، بالإبنة، بالأصدقاء، بالبيت، بالقرية، بالمدينة، بالمقهى، وبسوى ذلك من موسيقى الذكريات والوقائع والأحلام. من شأن هذه "الحديقة" أن تضفي على الكتاب بعداً حميمياً، قوامه لا يكمن في المعنى فحسب، بل في هذا المعنى، متخذاً الشكل والأسلوب المنسجمَين تمام الانسجام مع الحالة. في هذه المنقطة بالذات، أعثر على خصوصية هذه "الحديقة"، وعلى مكانتها في تجربة الشاعر المتواصلة منذ عقود.
وتحفل "الحديقة" بـالنجاة والسماء والأشجار والبرهة والسور وقبر الأب وباحة العيد ومقعد الشمس وصورة الصوت والبيت والحبّ والزوجة والمرض والليل وحضرموت والأب مرةً ثانية ونباتات الشرفة وبيروت وطيور الشعر و... قصيدة النثر.
"عندما يمرض الجسم/ يصبح ممتلئاً بالمعاني"، يقول الشاعر، موضحاً أن هذه "المعاني" التي نطاردها دائماً "هي داءٌ يخطّ دروب الحياة". ولأجل ذلك "تدهمنا الكلمات كما تدهمنا الأمراض،/ ولكننا نحيا بالكلمات كما تحيا الكلمات بنا". "هكذا سوف أمضي إلى هدفي"، عنوان إحدى القصائد. فما هدف الشاعر؟ هدفه أن يكون بلا هدف واضح، أن يكون بلا هدف واحد، وأن يكون كثيراً "كبعض الطيور التي تتلاشى بعيداً عن السرب". في هذا المعنى، هدف الشاعر "كلّ شيء"، محاولاً كالطير الذي يجوب حدود الفضاء، أن يكتفي بالسماء، لكنه لا يلذّ له أن يحلّق مكتفياً بالسماء.
لا يكتفي الشاعر بشيء. لا يكتفي الشاعر بعمر. ولا بحديقة. وإن كان يحتفي بالعمر وبالحديقة معاً، باحثاً عن حصته من ذاته، وكيف له أن يكون، ولو مرةً، على طبيعته. يحلو لي أن أعتقد جودت فخر الدين في هذا الكتاب، قد عثر على حصّته من ذاته، وبات قريباً جداً من "طبيعته"، وأكاد أقول متماهياً معها.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم