الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

شوقي أبي شقرا تذكّر فتذكّرت معه حتى لا يباغتني النسيان

مي منسى
شوقي أبي شقرا تذكّر فتذكّرت معه حتى لا يباغتني النسيان
شوقي أبي شقرا تذكّر فتذكّرت معه حتى لا يباغتني النسيان
A+ A-


"كانت الكلمات حفراً وآباراً"، هذا ما بقي في جرن ذاكرتي من بعض قصائده، فيما بين يديَّ كتاب- الحياة ("شوقي أبي شقرا يتذكر: كلمتي راعية وأقحوانة في السهول ولا تخجل أن تتعرّى"، "دار نلسن")، أستمد منه قصّة رجل، عاد إلى رحم ذاته، نواةً، لمشروع ولادة جديدة، وكبر فوراً، وفي يده قلم ليتذكّر. كتاب كبير بحجم قلبه، مشرّع على مواسم العمر، بلا جدران تقي أسراراً، بلا عتبة تقف عثرة بين أهل البيت وزائره، كمرفأ هو، لمن يتوق له السفر في مركب الذكريات الحلوة والمرّة، ولا يعود منها إلاّ وفي شباكه، مكاييل من حنين إلى ما كان.


من حجارة العمر ارتفع كتاب السيرة، مزيّناً برسم له وعنوان، أسئلة شتى ساورتني وأنا أتوغّل في آبار شوقي أبي شقرا، ولا ألمس قعراً. أيكون اعتزل عن عقارب الوقت ليكتب؟ أيكون دخل زمن الصوم لتكون الكلمة وليس سواها حساءه؟
بقدر ما صرت أتعمّق في النادر والمألوف من حياته، كان يأتيني من جوف بئره رنين كلماته، حاملةً تارة "ماء لحصان العائلة" وطوراً "خبزاً أسمر يكتب الوصيّة"، فأضحك وتنهمر دموعي، كلّما توغّلت في آبار معلّمي شوقي أبي شقرا، لأستفقد زمناً كانت الكلمة للشعر أو ما يشبهه، أقف بالدور مع الرفاق "لنرتقي الدرج إلى العلالي" لنتحصّن به ونبني جسر تواصل بيننا وبينه. توقّفت الكلمة، تنعى فراقاً، وبقي صوته على ورقتي المنشّاة بقلمه الأحمر، فاعلاً فيّ، صادقاً، مغسولاً من الزغل، ينزّ من عدواه، قلمي، فأتمنى لو أستعير من جناحه ريشة أحلّق بها فوق الشجر. عدت إلى لمامات من قصائده حين كان الوحي من ذاك المعلّم. أسمعه في رسالة إليها يقول: "قلبي يتمشّى وحده/ عارياً بعد العشاء/ إنتظريه يصبغك بالحبر الأحمر/ ويصحّح لك غلطة الكحل/ وطريق الدفتر/ ينكش تربة السطور لك...". أما كان يصح لهذه الرسالة أن تكون لي أنا، يا شوقي، أردّدها الآن في سرّي وأتذكّرك حين كنت تصحح مقالاتي بمنقاد قلمك الأحمر، فتنفلش على ورقتي حقولاً من شقائق نعمانك؟
كتاب الذكريات أعادني إلى زمن شوقي أبي شقرا، زمن البحث عن الذات في جريدة "النهار"، حيث كانت ولادتي الثانية. ففي هذه الخلية التي كوّنها حوله، تعلّمت أبجديّته العارية من التكلّف والزخرفات، حرّة من القماطات العتيقة التي تلجم جنون الخيال. في قفير شوقي أبي شقرا، صار لي جناحا نحلة، يرسلني إلى الحدث الثقافي لأجني من رحيقه عسلاً وطيباً، لا طبخة صحافية جافة، فأعود إليه بفوح الصعتر والسنديان والبلّوط، وأنتظر منه ابتسامة أملأ بها محبرتي. هكذا نشأنا في هذا القفير، نتعاطى معه بروح الكلمة، لا بجسدها، نتزهّد لنكتسي بعريها، نتقشّف لنتناولها قرباناً يمجّد الكون. وأدمنت كلماتي هذا النسك، أكتب، فأتحسّس قشعريرات في بدن الورقة. صارت لي انتماءة في هذه العائلة المقدسة وصرت أيقونة من أيقوناتها، نتحاكى من دون أن يكون صوت لكلماتنا، حتى لا يجفل الهواء الساري بيننا. على عقود، كان شريان معلّمي يصب منه إليّ، لذة الكتابة ومتعة الاكتشاف، حتى أصبت بداء الكلمة، الكلمة كما رمقتها في قصائده، تفوح من أسرارها رائحة الخبز والزيت والزيزفون.
كتاب شوقي أبي شقرا بدأت ولادته من سفر التكوين ولم تقفل صفحته الأخيرة على النهاية. من صفحة إلى أخرى أسأل حالي: ماذا حدث يا ترى بين بداية الكتاب ونهاية لا نهاية لها؟ لماذا ذلك الشعور الغريب فيما الصفحات ترفض الانطواء، بأني هناك من ذلك الزمن، تعيدني حكاية شوقي إلى فصوله، فأتذكّر من كنت. تعود الصبيّة لا كما في الصور الصامتة، بل من هذه التربة التي نبتّ فيها عشبة وصرت بدعم من سحر الكلمة، أرنو لأن أعلو فأغدو شلفاً من سنديانة "النهار". هنا أصبح لي معلّم، محا من فكري ما تعلّمته في المدرسة، لأكتشف تحت رايته موسيقى الأفعال لا إعرابها، روح الكلمة الهائمة خارج أبجديتها.
قبل أن أطأ أرض كتاب الذكريات، وكنت ما زلت أحوم حول الغلاف، كمن جاء يستفقد بيتاً أضاع عنوانه فوجده، عثرت على صاحب البيت في كلمات حطّها ربما عمداً على الغلاف الخلفي حتى لا نتيه عنه: "زهرة في طريقي هي تهمس لي أين حدودي وأين أنا في هذا الوجود الذي يكبر ويصل إلى قامة بعيدة الصلة. والعقدة والرابط بين ماض وحاضر". وطئت الدار، وجلت بين الفصول حيث تنتعش الذاكرة من كبوتها، فيغدو الرابط كما قال، بين ماض وحاضر. صرت ألتقي برفاق، لعبنا معاً في ملعب شوقي، وكاد الفراق ينسيني إيّاهم، ما عداه، لم ينس، وفيّاً لهذا وتلك، ولهم في كتاب- الذاكرة شهادات حب وعرفان ينعش ذكراهم، أحياء ما لبثوا، أو طواهم الموت في غفلة الحرب الضارية. فكيف عساي أقرأ كل هذه الذكريات من دون أن يلفّني حنين موجع، من دون أن أمسح دمعة. ويلفحني شعور بأن الشاعر تفوّق على الراوي. بكلمة كانت نجمته تنير درب الذكريات، ساهرة، لا تنام حتى لا يعمّ الليل على دروب الحكاية.
شوقي أبي شقرا، كتب لنا حكايةً غرفها من رمال إنسان وهب حياته للشعر، للأدب، للصحافة، شاهداً على حوادث زعزعت وغيّرت على مدى نصف قرن وجه لبنان والعالم العربي. قلمه سنح له الغوص في براكينها من دون أن يتلوّث شعره بشحتارها. ها هو في هذا الكتاب، يعيد ذكرى السنين الى البال، الخاصة به والعامة، بحلّه بكرة حياته، وعلى خيوطها مضت القصّة، منمنمة، مفصّلة، نقيّة، سلسة، كارجة على نهر جارف، تقفز فوق العثرات الدامية وتواصل سيرها، إلى اقصى حدود ذاتها، هناك، حيث لا مصبّ للنهر، بل روافد، تشق من جديد دروباً إلى ذكريات وذكريات...


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم