السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

ستيفن سبيلبرغ يبلغ السبعين: المخرج الذي خاطب الطفل داخل المُشاهد وخلفه طيف الروّاد!

ستيفن سبيلبرغ يبلغ السبعين: المخرج الذي خاطب الطفل داخل المُشاهد وخلفه طيف الروّاد!
ستيفن سبيلبرغ يبلغ السبعين: المخرج الذي خاطب الطفل داخل المُشاهد وخلفه طيف الروّاد!
A+ A-

ستيفن سبيلبرغ بلغ السبعين في الثامن عشر من الجاري. سبعون عاماً من الـ"سبيلبرغية"، كتب أحدهم على صفحته الفايسبوكية، كأن الصفة المشتقة من اسمه تكرّست قبل أن يصبح السينمائي الذي نعرفه. المخرج الأميركي الكبير قاصٌّ من الطراز الرفيع عانق التاريخ والانسانية والعواطف الكبيرة في عناق واحد. نجح في معظم ما تولاه، سواء أحضّنا على التفكير أم دعانا إلى الامتاع البصري الصرف. ودائماً في خلفية الصورة طيف جون فورد وسيسيل ب. دوميل أو فرانك كابرا وآخرين ممّن ضخّوا فيه حبّ الشاشة.


بائع أوهام، ومؤرخ للضمير الانساني في زمن الأزمات، معلّم في كيفية التقاط المتناهي في الصغر والمتناهي في الكبر، حرّيف يعرف استغلال الموارد السينمائية صوتاً وصورة، راعي أحلام الملايين صغاراً وكباراً. يشيّد أولوياته البصرية على قاعدة التكثيف، غارقاً في التفاصيل والوجدان واللحظة الحميمة. مسيّس على طريقته، يدرك جيداً اننا لا نحصل على التغيير إلا بالتمرّد على الطاعة الأبوية، وكسر الثبات والتمسّك بإرادة عظيمة تجعلنا نقف أمام مجرى التاريخ.
إلى هذا، هو أيضاً مخرج التشرذم. طفولته كانت معذبة. طلاق والديه، ملاحظات عنصرية ذات صلة بأصوله اليهودية... هذا كله حددّ مَن أصبح لاحقاً. شهدت أعماله على حياته وشخصيته، وقد يكون السينمائي المؤلف الأبرز الذي أغوى الجمهور.
هناك مخرجان يحملان اسم سبيلبرغ. الأول طفل دائم أخرج أكثر الأفلام شعبية في التاريخ مثل "إي تي" (1982) و"جوراسيك بارك" (1993) وسلسلة "انديانا جونز". في هذه الأفلام، تُسرد عوالم الراشدين بسلبية، ويتم التطرق فيها إلى الطلاق أو الانفصال. أما سبيلبرغ الآخر، فإنه الأب لسبعة أولاد، ومخرج أكثر الأعمال الدرامية روعةً في القرن العشرين، مثل "اللون الارجواني" (1985)، و"أمبراطورية الشمس" (1987) و"لائحة شندلر" (1993) و"انقاذ الجندي راين" (1998).
في نطاق السينما التي عمل فيها، أظهر تنوعاً غير مسبوق، وسرعة انتقال رهيبة بين هَم وآخر. ففي العام 1993 مثلاً، أخرج "جوراسيك بارك"، فانتازيا سينمائية تتمحور على ديناصورات، ثم بعد أشهر "لائحة شندلر" عن مأساة اليهود.
اشتهر بتلك اللقطة الانسجامية التي تعود دائماً في أفلامه، أي صورة قريبة لوجه احدى الشخصيات التي تنظر إلى شيء ما، بفم مفتوح وعينين جاحظتين. انها توقيعه الأشهر بصرياً. ويعتمد الشيء الذي ينظر إليه الشخص على نوع الفيلم: في الدراما، يكون غالباً حدثاً مأسوياً، وفي فيلم المغامرات تكون لحظة وجدانية ساحرة. مثل: تعابير وجه الدكتور مالكوم عندما يرى أول ديناصور حيّ. والـ"كلوز أبّ" من وجه انديانا جونز في "الفيلق الضائع"، عندما يبحث عن ماريون (المختبئة في سلة) في السوق المصرية.
اللدغة، هي الأخرى، فكرة طاغية في ذهن سبيلبرغ. نجاحه التجاري الأول، "الفكّ المفترس" (1975) مرتبط بهذا الخوف. الموت ليس هو الذي يخيف بذاته، بل فكرة الموت إلتهاماً من القرش. ينطبق الأمر نفسه على الأفاعي التي يخافها انديانا جونز.
تقليدياً، يؤدي الضوء دوراً كلاسيكياً في السينما. أي ان السينما تستعيد مفاهيم الضوء القديمة، وتستخدمها للسرد السينمائي. من البديهي ان يمثّل الضوء كلّ ما هو ممتع وخيّر وإلهي، في حين يرمز الظلام إلى الشرّ والخطر والشيطان. تمثيل الضوء للخير والظلام للشرّ ليس إلا نتيجة تعارف المجتمع والدين على ذلك. لكن سبيلبرغ يستخدم الضوء عكس العقيدة الكلاسيكية. مَشاهد اختطاف ولد من منزله بقوى شريرة تُرمَز إليها دائماً بضوء قوي. ثم اختطاف باري في "لقاء الجنس الثالث" واجتياح منزل اليوت في "إي تي"، واختطاف كارول آن في "بولترجايست" (من انتاجه) واختطاف الولدين في "هوك". هذا يبرز أيضاً في "لائحة شندلر": خلال تصفية النازيين للحيّ اليهودي تُضاء النوافذ، لتشهد على اطلاق نار النازيين والضحايا اليهود. وإذا كان الضوء قوة رهيبة وخطرة لدى سبيلبرغ، فالعكس صحيح أيضاً: السواد ملجأ، لذا يختبئ الأولاد اليهود الذين ظلوا على قيد الحياة بعد المجزرة في المجاري.
خلافاً لبعض الآراء المكرورة والأفكار الجاهزة عن سبيلبرغ، لا يسعنا إلا أن نجد في سجلّ هذا المعلّم أفلاماً تشي بإنتمائه إلى سينما المؤلف. سبيلبرغ ليس مجرد حرفي فحسب، أنما مؤلف لا يقلّ عن سكورسيزي وكوبولا أهمية. هناك تيمات تعبر كلّ فيلموغرافيته، وهو صاحب اسلوب تتعرف إليه حتى من دون أن يرد اسمه في الجنريك. الغريب إنه تؤخد عليه نجاحات كبيرة في شبّاك التذاكر، وهذا ما منع بعضهم من الامعان في تفاصيل عمله. لكن الغرب، خصوصاً أوروبا، أنصفه وأعاد إليه الاعتبار، كما أعاد سابقاً الاعتبار إلى كبار هوليوود، كهيتشكوك وهوكس إلخ. "دفاتر السينما" خصصت غلافاً كتحية له قبل سنوات، واختارت "لينكولن" فيلم العام. سبيلبرغ لا يسخّف الانترتنمنت كغيره، بل يرفعه إلى مستويات أعلى من خلال ادراكه للسينما كفنّ شعبي ومن خلال سينيفيليته النهمة.
شخصياً، لا أعرف مخرجاً خاطب إلى هذا الحد، المراهق الذي في داخل الكثيرين. سبيلبرغ كصديقه بيتر بان يفضّل الهرب من الواقع، لكن، في المقابل، أعاده الواقع إلى مرارته وقسوته في الكثير من الأحيان، فكان "مونيخ" أو "لائحة شندلر"، أو "أميستاد"، أو "اللون البنفسجي". أيضاً: "حرب العوالم" و"ذكاء صناعي" هما وثيقتان مدهشتان عن مرحلة ما بعد 11 أيلول. "إنقاذ الجندي راين"، بلغ مرتبة من الواقعية والشاعرية الحربية بحيث أن جون فورد ما كان لينكره مثلاً (مشهد برقية موت الابن إلى الوالدة). وأي فيلم أكثر إثارة للتسلية والتشويق من سلسلة "انديانا جونز"؟ أما "إي تي" و"لقاء الجنس الثالث"، فلا يحتاجان إلى شهادة، اذ دخلا عمق السينما منذ زمن بعيد. في المقابل، أرى في "الفكّ المفترس"، واحداً من أجمل أفلام التاريخ، ليس لأنه عن قرش يفترس الإنسان، بل عن إنسان يقاوم الافتراس. علّمنا سبيلبرغ ان السينما في تنوعها، ومن الغباء الاكتفاء بنوع واحد، بدلاً من الانتقال من أفلام دو اوليفيرا وبرغمان وكارلوس ريغاداس إلى جون ماكتيرنان ومايكل مان، من دون أن يشعر بالدوران في الرأس أو الخلل!
في العام 1995، في مئوية السينما، سُئل سبيلبرغ أيّهما الأهم بالنسبة إليه الحياة أم السينما، وكان جوابه: "قبل ان أتزوّج ويصبح لديّ خمسة أولاد، كنت أجبتُ بلا تردد: "بلى، الأفلام أفضل من الحياة"، لكن مذ أضحيتُ اباً لعائلة - وكان ينبغي حقاً ان أمرّ شخصياً في ذلك لفهمه - أقول انها الحياة الأهمّ! لعلّ العازب فنّان أكثر صفاء، إلا انه أكيد شخص أتعس". أما كيف يخال السينما بعد مئة عام، فإليكم ما قاله: "آمل ان السينما ستكون دوماً شعاعاً من ضوء وغباراً متناثراً على شاشة في صالة كبيرة. آمل دوماً ان السينما ستكون جاذبية ينبغي الانتقال من أجلها. مغامرة. ما اخشاه وما سيحصل في 100 عام، أن تتحول السينما إسلوب تعبير أنانيا. كلّ مشاهد سوف يشارك في السينما في منامه، بالحلم، بواسطة قطب كهربائي أو حبوب. سوف يسعنا ابتلاع حبة وعيش حلم شخص آخر او يتم ذلك كهربائياً. إنني بالأحرى متشائم، أخشى ألا تبقى تجربة نتقاسمها مع أناس آخرين. سوف نكون وحدنا في اختبار حلم امرئ آخر، بينما لي، أن أكون في السينما كما أن أكون في كاتدرائية".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم