الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

البحث العلمي بين الأسلمة والتحرر من القيود

منى فياض
البحث العلمي بين الأسلمة والتحرر من القيود
البحث العلمي بين الأسلمة والتحرر من القيود
A+ A-

الأمانة والمصارحة تستدعيان الاشارة الى أن وضع الخطط والمشاريع سواء الإصلاحية او المتعلقة بالبحوث لا تكفي وحدها. إذ سبق أن وضع الكثير منها من دون أن تحقق النتائج المرجوة.


هل البحوث هي التي تنقص؟
هناك كثير من البحوث في العالم العربي، لكن السؤال كيف يستفاد منها؟
منذ بداية الألفية، وربما كأحد العوارض الجانبية لزلزال 11 أيلول الشهير، شاع سؤال: لماذا نحن على هذا السوء وهذا العجز؟ ممَ نشكو؟
3 محاور لا بد من معالجتها لتساهم بتحقيق خطة بحثية مساعدة لمواجهة التحديات التي تغرق المنطقة في العنف والتشرذم وتهدد وجود الدول نفسها.


- العائق الديني أو الحق بحرية التفكير خارج الدين
- الشروط الضرورية لنجاح البحوث والخطط العلمية وفاعليتها
- علاقة الدول والحكومات مع مؤسسات البحث العلمي


 


1- العائق الديني أو الحق بحرية التفكير خارج الدين


السؤال الأساسي المعلّق الذي نواجهه منذ فترة طويلة هو: لماذا توقف العلم في الحضارة العربية؟
فالانتاج العلمي والابداع الثقافي هما أحد وجوه التحدي الذي يواجهها العالم العربي، ولا يمكن أن تبرز هوية ثقافية في ظل هذا الغياب الصارخ عن خريطة العالم العلمية.


التطبيع أو أسلمة العلم
ساد اعتقاد ان أسلمة العلوم هي التي تسمح لنا بالتقدم العلمي، وفي اعتقاد مطلقيها اننا بهذا، وبهذا فقط، يمكننا ان نتقدم ونحافظ على مجتمعاتنا من التأثيرات الغربية السلبية.
فهل حقاً هذا هو طريق التقدم؟ وهل هو مطلب جديد؟ وإذا كان قديماً فلماذا لم يتوفق في الحل؟


لكن أسلمة العلم ليست مسألة مستجدة او طارئة لمواجهة التحديات الحالية؛ بل هي في صلب الفهم الاسلامي لعلاقته بالعلم.


عند محاولة فلاسفة العلم الغربيين ومؤرخيه تفسير النجاح الفريد للعلم الحديث في الغرب من زاوية البحث في قصور الحضارات الاخرى، يشيرون الى أن الأمر لا يرجع الى نقص في التقنية العلمية وانما الى قصور في المجال الثقافي ككل؛ فقد اقامت تلك الثقافات قيوداً على المشاركة المعرفية وعلى الخطاب العام.
قامت الثورة العلمية فى أوروبا على أساس التطورات في علم الفلك، وكان بعض علمائنا قد توصل الى نماذج فلكية قريبة من تلك التي لدى كوبرنيكوس أو متماثلة تماماً مع اختلافات ضئيلة في بعض مقاييسها، لكن لم يستطع ابن شاطر ولا خلفاؤه، وهم كثر، ان يقوموا بالوثبة الكبرى في ما يتعلق بنظام مركزية الشمس، ما يطلق عليه الباب الميتافيزيقي للثورة العلمية الاوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وبدلاً من ذلك فقد جمد العالم العربي - كالشمس - وبدأ في التدهور.


يرى توبي هاف أن المشكلة لم تكن الافتقار إلى تطور استخدام المنهج التجريبي !! ولا النظرية الرياضية أو المستوى العلمي، ولكن كانت المشكلة سوسيولوجية وثقافية تتعلق بالمؤسسات.


ما حصل في العالم الاسلامي كان "تطبيعاً" أو أسلمة للعلم فأخضعت الحقيقة العلمية لكي تتماشى مع مقتضيات الثقافة الإسلامية المنسجمة مع الدين.
وبما ان الطريق الى العلم الحديث هو الخطاب الحر المفتوح من دون قيد او شرط ودون وضع أي موانع تعطل القدرة على اتخاذ مسافة من التراث من أجل فهمه كمنتج تاريخي وإعادة تأويله، فبقي هذا هو اللغز الذي لم يحله العرب بعد.


يجد عبد الحميد صبره فيلسوف العلم المصري الذي عاش بين بريطانيا واميركا وتوفي هناك، أن تطبيع العلوم الاجنبية، او بالأحرى اليونانية، في الاسلام هو ما أدى (للمفارقة) الى تدهورها.


هذا ربما ما يوضح كيف يمكن القيم الثقافية الكامنة في مجتمع أو حضارة أن تشجع البحث العلمي أو تؤخره؟
وهذه الإضاءة من أهم ما قدمه صبره لتفسير تخلف العرب المسلمين علمياً. "اسلمة العلم" التي تفترض بأن تكون الحقيقة العلمية في نسق متسق ومنسجم مع الدين.
أي عكس ما نسمع عنه من أن أسلمة العلوم وحدها تسمح بأن نحافظ على مجتمعاتنا ونتقدم بها.


 


2- الشروط الضرورية لانجاح البحوث والخطط العلمية
السؤال الدائم الذي يشغل الاوساط الفكرية في العالم العربي: لماذا نحن متأخرون بهذا القدر؟ لماذا يبدع افرادنا في الدول المتطورة، فنجد من ينال نوبل او من يتبوأ افضل المراكز العلمية العالمية وهناك اشخاص منهم معروفون على صعيد الكرة، ويعجزون عن ذلك في بلادهم الاصلية؟
هناك، اذاً، استبعاد لأي تأثير للعرق على إبداع الجنس البشري. وحده المناخ الثقافي الذي يوجد فيه الفرد هو المحدد الوحيد للإبداع.
عدا عن مشكلة الأمية وعقبات التربية والتعليم، نجد أن الرقابة عموماً، وعلى الأقلية التي تقرأ خصوصاً، تنحو لأن تشمل مجمل أوجه نشاطنا، وبخاصة تفكيرنا وقراءاتنا، بحيث تمنع الكثير من الكتب (رقابة كتب التراث). ناهيك بالرقابة على الانترنت ووسائل الاتصال التي تصل الى سجن من يضع بوستات تعتبر مخلة بالدين أو الآداب.
وذلك كله يشكل على كل حال نوعاً من المناخ القمعي العام الذي يستدخله الإنسان العربي ويظهر على شكل رقابة ذاتية خوفاً من التكفير والاغتيال. وما ينتج من ذلك ليس سوى الخوف والركود الثقافي والإبداعي.


ضرورة توفير شروط البحث


مشكلة الصعوبة البحثية في بلادنا، اي الصعوبات الفعلية والعملية التي تواجه الباحث تكمن في مدى قدرته على الافصاح عن استنتاجاته دون التعرّض للنبذ او القمع. وهنا لا يزال مثال نصر حامد ابو زيد ماثلاً في الاذهان.
هذا نوع من الموانع التي تعطل القدرة على اتخاذ مسافة من التراث من أجل فهمه وتأويله كمنتج تاريخي وإعادة تأويله. هذا التأويل يفيد في نسيان حشد المواقف المسبقة وفي طرح الأسئلة بأشكال جديدة ومختلفة. اوروبا تقدمت عندما استطاعت تأويل الوثائق التراثية المراد فهمها واهمها كانت بالطبع الكتب المقدسة. وكان لهذا التوجه أكبر الأثر على نمو الفكر العلمي والابداع في الغرب.
- غياب التقييد في البحث وفي إنشاء الوقائع نفسها، والحق في تقديم الوقائع الصافية او الفجة وتمييزها عن تأويلاتها.
- غياب التقييد في ما يتعلق بحق النقاش والنقد، والمطبقين ليس فقط على النتائج الجزئية، لكن على الأسس والحقائق والمناهج. فالمعارف الاجتماعية ترتفع إلى مستوى العلم بقدر ما تتصاحب بوعي حاد لمداها من ناحية ولحدود صلاحيتها من ناحية ثانية.
- غياب التقييد عن فك السحر عن الواقع للمساعدة على الكشف عن الفكرة التي لدينا عن نظام ما، وبعدها عن الواقع الممارس فعلياً في هذا النظام.
- السماح بكشف عيوب الواقع للمساعدة على الكشف عن الفكرة التي لدينا عن نظام ما دون خوف من عقاب.
ويتجلى غياب حرية الفكر في غياب الحق في الحصول على المعلومات. ويبدو اننا نعاني في عالمنا العربي من صعوبة اساسية في الوصول الى المعلومات. هناك خوف من اعطاء المعلومات ان عبر الاحصائيات او عبر المقابلات الحرة والمفتوحة. هذا بالاضافة الى صعوبة الوصول الى الشبكات العلمية العالمية والنقص في استخدام ادوات الاتصال البحثية. ذلك كله يعيد انتاج بحوث تتسم بالشمولية والعمومية.


3- علاقة الدول والحكومات مع مؤسسات البحث العلمي


لا يكفي وضع خطة بحثية اذا بقيت وضعية البحث العلمي على ما هي عليه. عند الحديث عن استقلالية الجماعة العلمية فهي لا تعني الانقطاع عن المجتمع واهتماماته، ولا تعني تحوّل العالم أو الباحث إلى آلة حيادية منتجة. ان نجاح اختيار المواضيع ومدى ملاءمتها تتعلق "بالمعرفة الضمنية" عند رجل العلم؛ ان يكون لديه الحدس لانتقاء ما له علاقة بالنموذج الإرشادي. ويمكن لانجذاب العلماء ان يكون لأسباب شخصية في أحيان كثيرة، ما يساعد في بناء نظرية جديدة وهذا بالذات ما يسبب نجاحها.
لكن ذلك يتطلب مجتمعاً بحثياً يقوده النموذج الإرشادي (Paradigme)، يعبّر عن مجموع المعتقدات والقيم المتعارف عليها والتقنيات المشتركة بين اعضاء مجتمع بذاته، يعني وجود تأثير ضمني ومتبادل بين العالِم ومجتمعه. يشير توبي هاف إلى أهمية ظهور أدوار للعلماء من ضمن سلسلة مترابطة يحتفظ فيها العالم بمكانة خاصة.
البحث العلمي والنظري والعمل الأكاديمي والتربوي، هما في صميم اهتمامات المجتمع الغربي الصناعي، وإن ذلك هو السبب في تعرض مراكز البحث إلى الضغط والتجاذب من أصحاب سلطة القرار.
لذلك إن لاحظنا بقاء الجامعة أو مراكز البحوث النادرة الموجودة في العالم العربي بمنأى عن هذا التجاذب، فذلك يعود إلى هامشيتها وليس إلى الاستقلالية المتوخاة.
لكن على هذا التبادل مع المجتمع أن يظل ضمن حدود تضمن عدم الضغط على الجسم الاكاديمي أو عرقلة البحث او تحويره إلى غايات تخدم فئة معينة.



يطرح ذلك اهمية وقيمة البحث العلمي والانساني، نسبة الى العلاقات الاجتماعية والتبادلية في المجتمع؛ اي موقع البحث العلمي والانساني على مستوى اعادة صياغة المعرفة ودور هذه المعرفة في المجتمعات العربية.
يتعلق الامر هنا بموقع المعرفة البحثية في الدورة المعرفية، او العلاقة بين سلطة المعرفة وبين السلطة السياسة. بمعنى آخر، مشكلة تهميش دور المعرفة البحثية في المجتمع العربي او غياب العلاقة بين الباحث او المؤسسة البحثية من جهة وبين القابضين على زمام الامور من جهة اخرى.
ما يميّز المؤسسات الأكاديمية الغربية أنها لم تعد تعليمية فقط، بل صار يتوقع منها أن تكون مؤسسة اجتماعية لذلك تتم محاولات دائمة للسيطرة عليها ولو بطريقة غير منظورة بسبب التأثير الذي تتركه على المجتمع، وذلك من خلال محاولات رجال المال وأصحاب الأعمال التحكم في محتوى المنهج الدراسي نفسه.



المؤسسات الأكاديمية في العالم العربي مهمشة ودورها تعليمي، تنتج المزيد من العاطلين عن العمل في معظم الاحيان. لذلك إن لاحظنا بقاء الجامعة أو مراكز البحوث النادرة الموجودة في العالم العربي بمنأى عن هذا التجاذب فذلك يعود إلى هامشيتها وليس إلى الاستقلالية المتوخاة؛ هذا مع الاشارة الى أنها تتعرض للضغط الاجتماعي والديني. 


 


-ورقة الدكتورة فياض التي ننشرها في موقع "النهار" سبق ان قدمت أجزاء منها في مؤتمر "حوار التنوع" في عمان. 


 


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم