الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أي سياسة خارجية للبنان في بيئة متفجرة؟

ناصيف حتي- كاتب ومحلل سياسي
أي سياسة خارجية للبنان في بيئة متفجرة؟
أي سياسة خارجية للبنان في بيئة متفجرة؟
A+ A-

بداية أود أن أشير الى أن هنالك ثلاثة أنواع في ما يتعلق بصنع السياسة الخارجية في العالم تعتمد على طبيعة الدولة سلطة ومجتمعاً.


 


■ الدول الديموقراطية: حيث السياسة الخارجية في خطوطها الاستراتيجية الكبرى تعكس الثوابت الوطنية والمجتمعية. وعندما يحصل التغيير في السلطة يبقى ضمن هذه التوافقات الوطنية وفي إطار المؤسسات المعنية التي تنظم هذا التغيير وتديره.
في لحظة الأزمات الحادة والتي قد تهدد المصالح الحيوية للدولة المعنية تقوم الحوارات في إطار هذه المؤسسات وتضم جميع أطياف القوى السياسية لبلورة المواقف الوطنية المطلوبة.


■ الدول السلطوية: سواء كانت جمهوريات أو ملكيات، هنالك قطيعة شبه تامة بين السياستين الداخلية والخارجية، فالسيطرة شبه الكلية للسلطة على المجتمع والسياسة الداخلية (نظام مقفل أو شبه مقفل) تسمح للسلطة بأن تتخذ الموقف الذي تريده في الشأن الخارجي استمراراً أو تغييراً بسبب غياب أي مساءلة من الداخل، مساءلة فعلية وليست شكلية بالطبع، وذلك بسبب القيود التي تفرضها طبيعة السلطة على الحياة السياسية. وأحياناً يكون خطاب السياسة الخارجية المشبع بالتعابير والمفاهيم العقائدية والشعبية من حيث شرعيتها لأنظمة معينة مختلفاً في حالات كثيرة عن السياسة الخارجية الفعلية، ولنا من الأمثلة الكثير في العالم العربي.


■ الحالة اللبنانية: وهي حالة شبه فريدة في هذا الخصوص. فالسياسات الداخلية من صدام وتعايش وتفاهم وتعاون وتوتر بين المكونات الرئيسية انعكاس لدرجة كبيرة في الانتقال من حالة إلى أخرى، للسياسات الخارجية للقوى الرئيسية الإقليمية المؤثرة - أو لما أسميه بالأقطاب المرجع - في لبنان في لحظة معينة. فلا ثوابت وطنية راسخة ومستقرة بسبب التمايز أو الخلافات بين المكونات الاجتماعية السياسية طائفية كانت أم مذهبية كما شاهدنا بالأمس ونشاهد اليوم. حرب الأمس كانت بين من يريد لبنان "هانوي العرب" للثورة الفلسطينية ومن يريده سويسرا الحياد في الصراع العربي الاسرائيلي في الموقفين الأكثر تطرفاً وتأثيراً.
الارتباط مع الأقطاب المرجع يتعدى التحالف السياسي التقليدي في لحظات السخونة وفي حالات كثيرة إلى ولاءات شبه كلية أو اصطفاف كلي وراء القطب المرجع. الدولة التي تقوم على الديموقراطية التوافقية، التوافقية الطوائفية أو المذهبية، تقوم على نظام من الفيتوات المتبادلة والشلل شبه الدائم عند حدوث أزمات خارجية حادة.
تبقى إذاً السياسة الخارجية في لبنان في محاولة لتفادي الدخول في صراع إقليمي وتفجر داخلي عند حدوث استقطاب إقليمي حاد، بمثابة محاولة السير على حبل مشدود خوفاً من الوقوع في وادي الخلافات القاتلة: الخلافات السياسية التي تعكس بشكل واضح صراعات هوياتية طائفية أو مذهبية.
تصبح السياسة الخارجية إذاً رهينة لتوازنات متحركة ودقيقة ومتفجرة بهدف تلافي المس بالقيم السياسية والمصالح الأساسية لاحد المكونات الرئيسية في البلد.


إن انخفاض التوتر الخارجي أو حصول تفاهم مباشر أو غير مباشر بين الأقطاب الاقليمية المؤثرة ينعكس إيجاباً على تحييد لبنان (1976، "الطائف" و"الدوحة") وقد يكون التفاهم بمثابة استراحة المحارب يساعد على إخراج لبنان، ولو موقتاً، من السقوط في حقل ألغام دون أن يلغي مهمة السير على الحبل المشدود للسياسة الخارجية اللبنانية بسبب هشاشة التفاهم الخارجي عادة واختراق الخارج للداخل أو أقلمة السياسات الداخلية بشكل دائم كما أشرنا.
نشهد اليوم انفجار الصراع الإقليمي وبلوغه الذروة حيث تقوم حرب باردة كما يعبر عنها الخطاب السياسي الرسمي لأطرافها تغذي وتتغذى على حروب بالواسطة وعلى مواجهة مذهبية مقيتة وجديدة في المنطقة وعلى الحروب الأهلية القائمة والمستعرة وليدة مسارات التغيير التي فشلت أو أُفشلت. الحروب التي تمتد من خليج عدن إلى البحر الأبيض المتوسط وخليج سرت. إن انفجار هذا الصراع الإقليمي الحاملِ لمنسوب توتر مرتفع يغذي الصراع الداخلي في لبنان والاستقطاب الحاد في ظل المخاوف من عمليات التعبئة المذهبية السياسية أياً كانت العناوين التي يتلطى بها هذا الصراع الداخلي. تزداد المخاوف على مستقبل لبنان واحتمال تحوله في ظل هذا الشلل شبه الشامل في كافة أوجه الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها من دولة في طريقها للفشل Failing State إلى دولة فاشلة Failed State، وملعب لصراع مفتوح للجميع يكون امتداداً للمسرح الاستراتيجي السوري، مسرح المواجهة الرئيسية الدولية الاقليمية في المنطقة وكأنما نشهد عودة لبنان إلى وظيفته السابقة ولو تغير اللاعبون وعنوان اللعبة.
الحرب الباردة الإيرانية العربية، وتحديداً الإيرانية السعودية، تزداد اشتعالاً وحِدة فتزيد من مخاطر الحريق على لبنان وفي لبنان.
فما العمل؟
لبنان دولة عربية، عضو مؤسس لجامعة الدول العربية أيا كانت الحال التي وصلت إليها الجامعة اليوم، وهي التي تعكس بصدق ككل تنظيم دولي أو إقليمي حال العلاقات بين أطرافه. لبنان يرتبط بعلاقات صداقة تاريخية مع المملكة العربية السعودية. وقد كان لها دور ريادي ومبادر في الإسهام في اطفاء الحرائق اللبنانية وتسوية العديد من الأزمات التي هددت التركيبة اللبنانية بالأمس وفي دعم لبنان. وللبنان، من جهة أخرى، مصلحة أكيدة في علاقات جيدة مع إيران، وهي قطب إقليمي رئيسي في المنطقة.
في ظل هذا الوضع المتفجر والمفتوح على كل الاحتمالات كما أشرنا، هنالك عنصران ضاغطان يفترض العمل في إطارهما لمنع الانفجار. أولهما إن منسوب التوتر الداخلي سيبقى باروميتراً لمنسوب التوتر الخارجي ودرجاته في المواجهة المفتوحة في السياسة والجغرافيا ولا يستطيع أن يخفضه أو يحتويه.
ثانيهما إن ادارة التوتر الداخلي المتزايد بغية احتوائه أمر أكثر من ضروري لأن الصدام الذي قد يخرج عن السيطرة بسبب "تبادل رسائل" من هنا وهناك يؤدي الى خسارة الجميع، فلا طرف سياسياً باسم المكون الاجتماعي الذي يمثله يستطيع أن ينتصر على الطرف الآخر أياً كان العنوان الذي يحمله. إنها لعبة التوازن المتوتر والممسوك والمؤدي للشلل ولكن المفتوح على الانفجار.
ما هو المطلوب على المدى المباشر وعلى المدى المتوسط في السياسة الخارجية؟


تشكيل مجموعة تفكير مصغرة تضم مسؤولين وشخصيات من المجتمع المدني بشأن بلورة أفكار ومقترحات عملية حول إجراءات لخفض التوتر. من هذه الأفكار وقف عملية "القصف" السياسي والإعلامي بين طرفَي الصراع في الداخل، وبالخصوص تلك الموجهة من الداخل لـ"الخارج - الآخر" لتبريد الاجواء وخفض الاحتقان. وعلى هذه المجموعة التفكير أيضاً في بلورة مقترحات عملية لخطاب ديبلوماسي لبناني لتشجيع ودعم كل توجه إقليمي ودولي، وهو قائم ولو بشكل خجول حالياً لإطلاق حوار سعودي - إيراني باعتبار أن هذا الحوار، متى انطلق وأنجز تفاهمات مطلوبة، هو المدخل الفعلي لإنقاذ لبنان من تحوله مجدداً ساحة ملحقة هذه المرة بالصراع الشديد التعقيد في عناصره وتداخلاته الممتدة من اليمن إلى سوريا.
على المدى البعيد وبغية "تحرير" صنع السياسة الخارجية من أن تبقى أسيرة بشكل شبه كلي كما أشرنا إلى الوضع السياسي الإقليمي، فإن المطلوب الانخراط في حوار وطني جامع لبلورة أسس الثوابت الوطنية التي تنعكس ضمن نتائجها العديدة في بلورة أولويات السياسة الخارجية اللبنانية على الصعيدين الاقليمي والدولي. ولا بد من التفكير أيضاً أن الدول الصغيرة بحاجة دائماً لسياسة خارجية ناشطة وبأن تكون موجودة بقوة في المحافل الإقليمية والدولية كافة لان ذلك يوفر لها شبكة أمان وضمان أقليمي ودولي نظراً لأهمية الدور الناشط والبناء والمنخرط بجدية في القضايا التي تعني المجالَين الإقليمي والدولي.


للبنان مصلحة أساسية في العمل الناشط وفي المبادرة ضمن أي توجه قائم أو للدفع في بلورة هذا التوجه لإقامة نظام إقليمي مختلف من حيث قواعده وأنماط تفاعلاته عن نظام الفوضى القائم حالياً. نظام يقوم على مبادىء الشرعية الدولية وما هو معروف من قواعد التعامل بين الدول. مبادىء وقواعد توفر الاستقرار الشرعي في الإقليم وأهمها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخر بشكل مباشر أو غير مباشر واحترام سيادة الدول ونظم الحكم القائمة وإدارة الاختلاف ومحاولة تسويته متى أمكن أو احتوائه بالوسائل السياسية والديبلوماسية المعروفة. ودعوني أقول إن للبنان مصلحة أكيدة للدفع باتجاه قيام مؤتمر أمن وتعاون يضم الدول العربية، وأيضاً الاسلامية المعنية (تركيا وايران)، ليس بديلاً من المنظمات القائمة، ولكنه يكون بمثابة منتدى للحوار والتشاور واحتواء الأزمات ومحاولة حلها، ولنا في مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون في أوروبا في الحرب الباردة خير نموذج لذلك.
إ


ن التوافق الوطني حول ثوابت وقواعد للسياسة الخارجية بشكل خاص يسمح ببلورة سياسة خارجية ناشطة ومبادرة تتحرك لتسوية الخلافات في المنطقة (دور الطرف الثالث) وتتحرك أيضا على الصعيد الدولي للدفع لتسوية الصراع العربي الاسرائيلي، لان للبنان مصلحة أكثر من غيره للتسوية السلمية لهذا الصراع والخروج من حالة اللاحرب واللاسلم الذي دفع ويدفع ثمنها. إن سياسة خارجية ناشطة أيضاً على الصعيد الدولي وفي الأطر المتعددة الطرف في مختلف القضايا الدولية التي تهم العالم ولبنان، تعطيه قيمة مضافة وتوفر له الدعم والحصانة على الصعيد الدولي.
قد يبدو الأمر طموحاً، ولكنه غير مستحيل، إذ أن تحصين لبنان وتعزيز مكانته الاقليمية والدولية وسمعته من خلال دور ناشط يصبح بمثابة دور مطلوب على الصعيدين الاقليمي والدولي، يعزز الامن والاستقرار وكذلك الازدهار للبلد الصغير الحامل لديبلوماسية كبيرة.


 


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم