الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

سينما - "رحلة الزمن" يحملنا إلى هواجس تيرينس ماليك المعتادة: من أين نأتي وإلى أين نذهب؟

سينما - "رحلة الزمن" يحملنا إلى هواجس تيرينس ماليك المعتادة: من أين نأتي وإلى أين نذهب؟
سينما - "رحلة الزمن" يحملنا إلى هواجس تيرينس ماليك المعتادة: من أين نأتي وإلى أين نذهب؟
A+ A-

"رحلة الزمن" من الأفلام التي كانت منتظرة جداً في مهرجان البندقية (31 آب - 10 أيلول) هذا العام (معروض ضمن المسابقة). مخرج "شجرة الحياة"، صاحب طموح سينمائي ضخم ينطوي على هوس ميتافيزيقي وفلسفة ومساءلة المجهول. هذا الطموح المتعاظم فيلماً بعد فيلم (معانقة الكون ومخلوقاته) أبعده قليلاً عن هموم الجمهور العريض وسارع ايقاع عمله (أربعة أفلام في آخر خمس سنوات). النسخة التي عُرضت في البندقية هي النسخة الكاملة تبلغ مدتها 90 دقيقة، في حين تلك التي عُرضت في مهرجان تورونتو ولاحقاً في الصالات التجارية بفورما الـ"آي ماكس" مدتها 45 دقيقة فقط لا غير. الأولى تعليق صوتي لكايت بلانشيت والثانية بصوت براد بت. نعم، هناك "فويس أوفر" في الفيلم، فماليك لا يزال وفياً لأشيائه التي صارت علامة مسجلة.


في العالم، قلة نادرة من السينمائيين يمكنهم التفاخر بأنهم قادرون على انجاز الفيلم الذي يريدونه، بالحرية المطلقة والكاملة التي يحلمون بها، حرية متحررة من كل قيد او شرط، بعيداً من ضغوط اصحاب المال وذوي القرار. الأميركي تيرينس ماليك من تلك الطبقة النادرة التي فرضت نفسها عبر السنوات في المشهد السينمائي، محتكراً الأدوار ومختزلاً الأنماط. فهو من النادي الضيق الذي تنتسب اليه حفنة من السينمائيين الجهابذة الذين في حوزتهم "كارت بلانش"، يعملون بموجبها، فينجزون كلّ ما يعبر في بالهم بلا حسيب أو رقيب.
سبعة أفلام في أربعين عاماً، انقطاع من 1978 الى 1998، صمت مطبق بعيداً من الاعلام، غياب عن المهرجانات (رغم ما يتردد انه كان يراقب من خلف الستارة، ردود المشاهدين يوم عُرض "شجرة الحياة" على الصحافة في كانّ)... هذا كله عزّز مكانة المخرج السبعيني، استاذ الفلسفة السابق، وحوّله اسطورة على غرار ستانلي كوبريك. وقد يكون الوحيد حالياً، القادر على جمع المال والاستعانة بنجوم لفيلم لا ينطوي على أيّ قصة بالمفهوم التقليدي للكلمة. لا حبكة، لا تطوّر واضحاً للحوادث، انما خربطة وتعطيل ممنهج لكل ما يتم توظيفه كخيط رفيع داخل المنظومة الحكائية.
اذاً نحن أمام وثائقي عن سيرة الانسانية منذ الانفجار العظيم إلى زمننا الحديث، ولكن يبقى عمل ماليك مبهماً يغيب فيه أي شرح. سيلٌ من الصور المدهشة يتدفق أمامنا، بعضها التُقط حقيقةً وبعضها الآخر مشغولٌ افتراضياً. الا ان التداخل بينهما يحدث شرارة نادرة. أين تنتهي الحقيقة وأين يبدأ الواقع الافتراضي، لا يهم! المهم أن ماليك يأخدنا إلى رحلة لتأكيد شكوكه وايمانه المغاير ولحظات هروبه إلى السماء والأسئلة التي لا يملك لها أجوبة. "مَن أنتِ، مانحة الحياة؟"، تسأل بلانشيت في أحد المشاهد، محولةً رحلتنا إلى صلاة صامتة.
يتأخر الفيلم كثيراً عند الثروة المائية، في مشوار طويل مع سكان البحار. روعة المشاهد المائية والبرية والجوية تسحق القلب. يأتي التعليق الصوتي الشاعري على شكل لازمة ليضللنا كثيراً، فهو يروي عملياً حكاية مختلفة عن تلك التي تقولها الصور. التعليق يخاطب الطبيعة الأمّ، يمجّد أزليتها، يحيي عطاء بلا مقابل. فيما الصور أكثر انغماساً في الأرض، الهواء، العناصر الطبيعية التي يتشرّب منها. جاءنا ماليك بلوحة تجريدية لتكوين الحياة. انشودة تحتفي بالوجود كسرّ من الأسرار. فبدلاً من اللجوء إلى المعطيات العلمية لتفسير الظواهر الطبيعية، يلجأ ماليك إلى فكرة الدهشة والغموض. تحلّق كاميراه فوق عشرات الأنهر والجبال والسموات والبحار طوال 90 دقيقة، في محاولة لإعادة خلق مشهدية بزوغ الانسانية ثم تطورها عبر العصور، حتى وصول الانسان الأول.
يدخل الفيلم إلى الخلايا الجرثومية حيناً ثم يخرج إلى الأراضي الشاسعة. نرى العبور المتواصل بين ما هو متناهٍ في الصغر (حبة تراب) وما هو متناهٍ في الكبر (الحياة، العقل البشري، الحبّ، الطبيعة). يحاول ماليك أن يكون عقلانياً، لكن العاطفة تتغلب عليه، مثلما تتغلب عليه أيضاً "تيكاته" التصويرية. ما استطعتُ أن أفهمه من الفيلم برمته، ان ماليك يجد حلاً وسطاً بين العلم والايمان. ففي حين ترينا الصورة الانفجار العظيم الذي تستند اليه نظرية نشأة الكون، يناشد الصوت الخافت الخالق، أي الله. واضح ان ماليك لا يستطيع أن يتخلى عن أيٍّ منهما، وهذا - اذا تعمقّنا في التفكير - يوصلنا إلى ماهية السينماتوغراف نفسه: لقاء بين التقنيات والايمان بشيء يمكن خلقه من العدم. هذا أكثر فيلم يؤكد ان رجلي ماليك على الأرض ورأسه بين النجوم.
المونتاج هائل، كذلك الانتقالات بين اللقطة القريبة وتلك الواسعة أو العريضة. التكرار، وهو من صميم عمل ماليك، يدور بنا نحو المناطق نفسها، مرات ومرات. ذريعة المَشاهد في ذاتها، ولا تحتاج إلى أي حجة تبريرية من الخارج لتأكيد حضورها. "رحلة الزمن" قصيدة روحية يمكن اعتبارها امتداداً لبعض ما جاء في "شجرة الحياة" (مَشاهد الفضاء الخارجي). هنا، لا شيء يعوق ماليك، لا الحبكة ولا الرغبة في البقاء ضمن المقبول سينمائياً لصناعة فيلم روائي، فهو يطلق العنان لمخيلته بلا أي حسيب، لذلك فإن "رحلة الزمن" أحد أكثر الأفلام جنوناً وتمجيداً للحرية كمفتاح أساسي لكلّ ابداع. نشأة الكون عند ماليك ابداع وفنّ، قبل أن تكون علماً. تبقى اللقطات الدخيلة لناس من انحاء مختلفة من العالم صوّرتهم كاميرا ذات نوعية رديئة. مَشاهد من فلسطين ومصر والهند. لا يعطينا الفيلم أيّ معلومات عنها: متشرد في الغرب، احتفال ديني في الهند، معتصمون في ميدان التحرير... ما الرابط بين هذا كله؟ فقط المخرج ومونتيره يدركانه.
ماليك من القلائل الذين لا تهمّهم مَوضعة سينماهم، لا في سينما حديثة ولا ما بعد حديثة، لكنه أصيب عبر السنوات بهذا الفيروس الذي يجعل كل فيلم له يشمل العالم ومخلوقاته ويطال النجوم والسموات، بطريقة بانورامية، كأنما يريد معانقة المصير الانساني بأكمله في عناق واحد. من النادر أن تجد سينمائياً يعود ويكرر نفسه ويجد دائماً زوايا اشتغال جديدة. حتى الجراد الذي يصوّره بالـ"كلوز ابّ" ("أيام الجنة")، يمتلك أمام عدسته حضوراً مختلفاً. أمّا الروحانية المسيحية التي هي في صميم عمله، فتتجلى بوضوح في الكلمات غير المكتملة التي نسمعها على لسان الشخصيات، وهي على ارتباط متين بالإنجيل وتعاليمه.
ماليك هو أيضاً وخصوصاً، السينمائي الذي يختصر الطريق بين فنّ الاستعراض والأفكار الفلسفية الكبرى التي تلح على سؤالَي "من أين نأتي؟ الى أين نذهب؟". هذه الأفكار هي الخصم الأكبر لـ"الشوبيز". فالترفيه لا ربّ له ولا روحانيات، وغير منشغل بأسئلة الوجود. في هذا المعنى يمكن اعتبار ماليك فيلسوف السينما الذي يجعل أبطال هوليوود يضلّون طريقهم الى مسرحه التراجيدي. الأهمّ انه، خلافاً لفلاسفة السينما، يقيم لجماليات الصورة وزناً، وهذا نادر حصوله. فالسينما الأميركية تميّز جيداً بين مخرجين باطنيين ومخرجين ظاهريين. نادراً ما يجتمع الباطن والظاهر في وصلة سينمائية واحدة.
ماليك ليس فقط مجرِّباً أبدياً يلهو بالمُشاهد بلا أي شعور بالذنب، بل أيضاً رسّام تجريدي يستعمل ريشته بدلاً من الكاميرا ليضيف لوناً هنا ولوناً هناك. يستعمل الممثلين كالرسّام الذي يستعمل ألوانه: الكلّ موجود أمامه ويلجأ اليهم ساعة يشاء. وعندما يختارهم، لا يعطيهم ايّ ضمان عن الفيلم الذي سيثمر عن تعاونهم معه. ككلّ رسام، يطلق العنان لمخيلته اثناء الشغل، ليس قبله وليس بعده. رغبته في التجريد لا يمكن قراءتها بمعزل عن رغبته في تجاوز السينما كإنجاز تقني من صورة وصوت. يقال إن كلّ ما هو نافر في طباع الانسان، يتضخم مع العمر. بناء على هذا، أصبح ماليك لا يقبل اليوم بأقلّ من قطعة سينمائية تختزل اللوحة والكتاب والسمفونية والقصيدة.
لهذا السبب، لا يحتاج المعلّم أن يعلّق على ما ينجزه، لأن لا كلمة تفيه حقّه، ولأن سينماه تجربة، رحلة، إبحار. أصلاً، ما الفائدة من شرح لوحة لبيكاسو أو قصيدة لبودلير؟ كل إشارة كلامية منه لا بدّ أن تولّد إشارات أخرى تطيح حرية العمل وتخرجه عن مساره. ماليك، تماماً كالله، لا يشارك خلقه مع أحد، وعندما يشرع فيلمه على التأويلات، هذا لا يعني أنه يتيح للمُشاهد أن يكمله على هواه ويحمّله المعاني، بل ليضعه أمام تلك اللوحة التي لا أطراف لها أو حدود، تماماً كنهاية الطريق العصية على البلوغ التي ينهي بها فيلمه الجديد.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم