الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

بيّاعة البندورة

عقل العويط
عقل العويط
بيّاعة البندورة
بيّاعة البندورة
A+ A-

أستمع باستمرار إلى إذاعة على الـ أف. أم. مخصّصة لبثّ المسرحيات الرحبانية. أمس، تلقيتُ إشعاراً عاجلاً من "بيّاعة البندورة" في مسرحية "الشخص"، بلزوم الحضور فوراً للمشاركة في الاستماع إلى إفادتها في جلسة المحاكمة التي دعت إليها المحكمة، باعتبارها خرقت القانون، وبقيت مع "عربيّتها" في الساحة. علماً أن المتصرف والشاويش كانا أمرا بإخلاء المكان. فـ"الشخص الجزيل المكارم" قادم، ولا بدّ من طمس ما يؤذي مزاجه، والترفيه عنه، وإقامة الزينة والاحتفال تكريماً لقدومه.
المهمّ أن البنت الفقيرة البيّاعة التي ورثت "العربيّة" عن أبيها، بقيت في الساحة، لأنها ساحة البيّاعين، وهي تريد البيع، وليس عندها مورد عيش آخر، ولا مكان آخر لبسط بندورتها الجبلية البلدية سوى هذا المكان. بلا طول شرح، حضر "الشخص"، فغنّت له البنت البيّاعة، وانبسطت أساريره، لكنه غادر بدون أن يشارك في وليمة الغداء الموعودة، مما ترك الانطباع لدى "الجماعة" (الحاشية ما غيرها) بأنه استاء من حضور البيّاعة ومن خربطة الحفل. استمع الشاويش إلى إفادة البيّاعة، لكنه غيّر فحواها، فكتب في المحضر أنها اعترفت بكونها ليست بيّاعة، وبأن أحداً أرسلها لخربطة الاحتفال، وبأن ثمة "لعبة" كبيرة وغامضة وراء الأمر.
خُتِمت "العربيّة" بالشمع الأحمر، ونُقِلت البندورة لتُحفَظ في برّاد الشاويش طبعاً، وأحيلت البيّاعة على المحكمة، حيث "باسم القانون" صدر الحكم ببيع "العربيّة" في المزاد العلني، لأن البيّاعة لا تملك ما تسدّد به قيمة العقوبة البالغة مئة ليرة لبنانية، بعملة العام 1968.
لماذا أروي هذه القصة؟ أرويها لأنها لا تزال هي هي، قصة الحكّام والمحكومين و... الشبّيحة المستفيدين من الحكّام والمحكومين. وأرويها بسبب الضجر الوجودي، واليأس، ولأننا كلّنا بيّاعو البندورة. وكلّنا لا نملك أن نكون أنفسنا، بسبب التفقير والتجويع والإذلال والإهانة والنهب واستباحة القانون. فضلاً عن الكرامات المهدورة. "الشخص" في مسرح بيت الرحباني هو "الشخص"، ماضياً وحاضراً. والشاويش والمتصرف والشبّيحة والمرتزقة و"الجماعة" هم أنفسهم وإن تغيّرت أسماؤهم وأقنعتهم. أما البيّاعة الفقيرة فهي دائماً البيّاعة الفقيرة. والمحامي هو اللامحامي، والقانون دواؤه هذا اللامحامي. والإعلام المتملّق المأجور هو الإعلام المتملّق المأجور، والمستشارون السفلة هم أنفسهم. أما العدالة فدائماً وأبداً هي اللاعدالة. ومضرّجة، كما تعلمون. و... نقطة على السطر.
كان بودّي أن أغرق فحسب في المسرحية. وفي الصوت. وأن أنسى. وأن أقهقه عالياً. لكنّ صوت بيّاعة البندورة، ونحن جميعاً باعة بندورة، يصرخ في الحبس وفي المزاد العلني. ولا يزال.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم