السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

أوليغارشية تمثيلية

طارق قبلان- اعلامي وناشط
أوليغارشية تمثيلية
أوليغارشية تمثيلية
A+ A-

لا تعِد الانتخابات البلدية التي تجري وقائعها هذه الأيام بنتائج واقعية تليق بانتخابات تمثيلية، لأنّها لن تكون أكثر من توليفات، يتأمّن بموجبها التمثيل لمن انتظم في سلك الطاعة، ونذر لزعيمه السياسي العفة والخدمة حتى آخر الدهر؛ فلا زحزحة لقواعد التمثيل متوقّعة، ولا تغيير منتظر، لأنّ البنية الاجتماعية والسياسية هي ما هي عليه، ولم يطرأ أيّ من العوامل الثورية، التي تستدعي تحولاً نسبياً أو جذرياً، في ظلّ رعاية "بطركية" راسخة، تعضدها نصوص قانونية قاصرة عن تأمين آليات تمثيل موضوعية، عبر إيجاد علاقة بين المواطن ومحلّ سكنه، بدل إرغامه على الانتماء الأولي الذي لم يعد يشدّه إليه سوى سجّل في دائرة نفوس القضاء.


ستكشف هذه الانتخابات كما كشفت سابقاتها انهياراً متسارعاً للديموقراطية في لبنان، لأنّ الانتخابات صارت مجرّد تصويت كيفما اتفق، وتحالفاتها تمثّل قهراً، من دون النظر إلى كفايةٍ أو علمٍ أو تجربةٍ، في وقت يصدّ الناشطون في الخدمة العامة وأصحاب المشاريع الواعدة وخطط التنمية، لا لسبب إلّا لكونهم يرفضون الانقياد لصاحب الأمر من ساسة الحداثة والمعاصرة.
إلى ذلك، يظهر جليّاً أنّ القوى السياسية نجحت في ضرب بنية العلاقة المتبادلة بين الناخب والنائب أو الممثل البلدي، حين جَعلت تلك القوى نفسها وسيطاً بين طرفَي المعادلة الانتخابية، فأزالت - عملياً - محتوى النصوص القانونية التي تجعل للطرفين موجبات متبادلة، وبات المواطن لا يقترع لممثله، ولا يُحاسبه، بل ينتخب القوة السياسية، ويتخلّى راغماً عن مهمّة ومسؤولية محاسبة الممثل الذي هو في الوقت عينه عنصر من عناصرها، وجميع شؤونه في معزل عن تدخّل المواطن وشروطه... يمكن أن نضرب مثلاً ذاك الذي "ركب" على الكرسيّ ثلاث ولايات ولم يتزحزح، وإليه كان يُجبى خراج البلدية، ولا تخرج على يديه مشاريع ولا تنمية ولا نظافة ولا إدارة للسير، ثمّ أورثها - إن شاء الله تعالى - في رابعة الولايات زميلاً حزبياً ونظيراً له في الإدارة والتنمية، يحكم ما شاء له حزبه أن يحكم، فيما المجتمع مستضعف قد أمسك الأقوياء بمفاصله، ولم يعد يقوى على إدارة عملية سياسية بمنأى عن تدخّل "حكماء السياسة ودهاتها".
وصحيح أن الانتخابات البلدية، بل الانتخابات عموماً، لم تكن طوال سنوات التجربة اللبنانية الحديثة مشرقة، لكنّها - على الأقلّ - كانت تتمتّع بمواصفات لم تتحصّل لأيّ بلد عربي، من المحيط إلى الخليج؛ وبدل أن يتمسّك اللبنانيون بتلك المنجزات، انساقوا إلى التماهي مع المحيط العربي السلطوي، ودوله التي لم تعتَدْ الأنظمة الديموقراطية أو الأنظمة التي تولي حرية الناس وخياراتهم. فالتجربة التاريخية لهم تجربة استبدادية، أسّسوا بنيانها على تركيبات قبَلية، بمعزل عن التسميّات "الدستورية" التي يطلقونها من وقت لآخر على هذا النظام أو ذاك.
واللافت في التجربة الانتخابية اليوم أنّ الإعداد لها كان ذا وظيفة تثبيطية، في ظلّ الخوف من تعدّي حدود المهل القانونية، مثلما حصل تماماً عند انتهاء ولاية المجلس النيابي السابق، إذ تمّ الإعلان عن الانتخابات بطريقة "التنقيط"، على دفعات، بالتزامن مع أحاديث التشكيك، التي أطلقتها المجموعة الأوليغارشية في البلاد، حتى لا تكون للمجتمع القدرة والمهلة الضروريتان للتفاعل مع الحدث، فتخطف القوى السياسية المجالس التمثيلية خطفاً، فتولّي أمورها من شاءت من محازبيها، وقد سبق في ذلك القول.
وللتقهقر الديموقراطي في لبنان أسباب موضوعية يمكن إجمالها بغياب مؤسسات الدولة والثقافة القانونية، في ظلّ طغيان النفوذ الزبائنيّ للأطراف المختلفة، ثم الرشوة التي تسود الموقف، ولا من يُحاسب؛ وهي رشوة ممتدة منذ التوظيف، مروراً بالوساطات المختلفة، ولا تقف عند حدود التقدمات في ساعات الاستحقاقات الانتخابية.
وإلى ما تقدّم من أسباب التقهقر الديموقراطي، يمكننا إضافة الأميّة السياسية، فضلاً عن الأمية الألفبائية، إذ عجزت القوى السياسية عن تقديم عناصر لائقة للعمل العام، صدقية وكفاية ومناقبية، بل أصرّوا على أشخاص معيّنين بمعيار الاستتباع، بعيداً عن المعايير الخلاّقة.
والأنكى من ذلك كلّه أنّ الأحزاب السياسية تمارس الديماغوجية في تعاملها مع المواطنين، سواء أكانوا من أنصارها أم من غير الأنصار، إذ أبرزت التجربة الماضية أنّ مسؤولي الأحزاب الذين رشّحوا ودعموا وكرّسوا أسماء بلدية محدّدة لم ينبسّوا ببنة شفة،على الرغم من المطالبات المتكرّرة من المواطنين، وعلى الرغم من الشكاوى التي لا تعدّ ولا تحصى ضدّ أولئك؛ وكان الجواب في كلّ مرّة أنّ رائحة هؤلاء "البلديين" قد فاحت كثيراً، وسيأتي يوم الحساب. لكن اليوم أتى حينها، ولم يكن من حساب ولا جزاء ولا من يُحاسبون...
وفي المرّة الماضية، لجأت الأحزاب إلى "الناخبين المؤلّلين" لفرض المجلس البلدي "السعيد الحظّ" في بلدة من بلدات الوطن، ثمّ مع انتهاء عملية الاقتراع مساءً لم يعد لـ "المؤلّلين" من وجود في البلدة، لا على مستوى أشخاصهم، ولا على مستوى ممتلكاتهم، لأنّه وبكلّ بساطة ليس لهم عنوان محدّد في مدى أربعين كيلومتراً من القرية؛ وهذه ثغرة أخرى في النظام القانوني للتمثيل البلدي في لبنان.
ونختتم بطُرفة حدثت مع انتخاب مجلس بلدي في قرية انتصرت فيها لائحة "توافقية"، إذ أطاحت تمثيل عدد من العائلات الأساسية، التي رشّحت عدداً من الناشطين، أصحاب الكفايات والمشهود لهم؛ وأتت"اللائحة التوافقية" بستة أعضاء من الأميين من أصل تسعة، فيما لا يعوّل على ثقافة الباقين، فسأل أحد الخاسرين"الشاطرين" المسؤول الحزبي عمن سيكتب محاضر جلسات البلدية، فكان الجواب ببساطة "لا أدري".
فمن يدري إذاً؟... ولمَ تتولون أمور الناس يا مَن لا تدرون؟....

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم