اشترِك في نشرتنا الإخبارية
جبران "النبيّ" السابق لـ"زمن ما بعد الأديان": هندوي "تيوزوفي" صوفي وأكثر!
"هندوي"، "تيوزوفي"، يؤمن "بالعين الثالثة"... صانع مفاتيح "ديانة الروح". في اوراق #جبران الكثيرة، فتَّش الدكتور لويس صليبا جيّدًا. دقّق، راجع، محّص. والنتيجة تأكدت: "التفتيش في سيرة جبران وبعض ما خُفي منها او لم يوضع في رقعة الضوء يبيّن انه عاش في اجواء تيوزوفية"، يقول التيوزوفية "تستند اساسًا الى الهندوسية والبوذية وتتألف من عقائدهما"، في الشرح. وكل قارىء او باحث او مستكشف لجبران لا بد من ان يدرك قبل اي شيء، ان "ادبه وفنه لا يمكن ان يُفهَما بمعزل عن المؤثّرات التيوزوفية، وبالتالي الهندوية".
اقوى من ان يغلبه اي زمن، #جبران_خليل_جبران الغامض، المثير للفضول. "النصّ الجبراني غنيّ جدّاً ويحمل رسالة إلى كل زمن. من هنا ضرورة تأوينه باستمرار"، يقول الدكتور صليبا، "المستهند" والاستاذ والباحث في الأديان المقارنة والدراسات الإسلامية لـ"النهار". بعد 84 عاما من الغياب، يعيد فتح الاوراق الجبرانية متمِّمًا المهمة: "قراءة جديدة لأدب نابغة النهضة"، "دراسة" نشرها قبل اسابيع في كتاب: " #اديان الهند وأثرها في جبران"(*). بالنسبة اليه، "جبران لا يزال يثير اهتمام القرّاء والباحثين معاً، لأنه يتخطّى الحاجز الذي يفصل دنيانا عن عالم الخلود".
في هندسة ما يسمّيه صليبا "العمارة الجبرانية"، مقاسات وخطوط أفقية وعمودية غير تقليدية، استثنائية، وقد سبكها مهندسها، البشرواي اللبناني، بطَيران روحه وإلهاماته المسحورة. "جبران لم يكن مسيحيا في العقيدة، ولا في الممارسة. عاش غير مسيحي ثائرا على الكنيسة ورجالها وعقائدها، ومات غير مسيحي، رافضا المسيحية والكنيسة"، يقول صليبا. عند احتضاره، سألته راهبة في المستشفى اذا كان كاثوليكيا، "فأجابها بنبرة قوية: كلا. فتركته وانصرفت"(*). "نبرته القوية تلك، و"لاؤه" الجازمة بأنه ليس مسيحيا تؤكد انه مات كما عاش، غير مسيحي، رافضا الكنيسة وأسرارها. وهو لم يحتفظ من مسيحيته الا بانتماء اجتماعي عنوانه، او بالحري دافعه التضامن مع اهله الرازحين تحت الحكم العثماني الجائر".
متكتماً كان جبران حول مصادره التيوزوفية واصول فكره. ويقول صليبا: "لقد نجح في إخفاء مؤثراته وأحداث كثيرة من حياته وعلاقاته زمناً طويلاً. لكن هذا الغموض المزمن آخذ بالتلاشي". في دراسته هذه، يسلّط صليبا "أضواء جديدة" على شخصية جبران وأدبه، "استناداً إلى علاقته الواضحة بالحركة التيوزوفية ورجالاتها أولاً، والمؤثرات الهندية البيّنة في أدبه ثانياً، والتي بقيت غالباً خافية على الباحثين الجبرانيين، لأنهم، ببساطة، لا يعرفون الشيء الكثير عن الهند ولغاتها وأدبها وفلسفتها".
البحث في جبران كالغوص في بحر يخرج من جوفه زبد كثير، لكنّ اسراره اكثر. "بمتعة" يدوّن صليبا "محطات رحلته السياحية" الجبرانية، كأنه سافر الى "مدن" وزار "متاحف جديدة". ورغم تلك "القدسية، "قدسية السر"، التي حوتها، أمكنه ان يبيّن بوضوح ان "تفاعل جبران مع تعاليم الهندوسية واليوغا كان تفاعلا عمليا واختباريا، وليس مجرد تفاعل نظري. وهذا وحده دليل على رسوخ الهندوية في العمارة الفكرية الجبرانية"، على قوله.
ولا حرف واحد يسقطه التدقيق، من اولى كتابات جبران الى نَفسه الاخير. في المهمة، درس للعقائد الهندية في الآثار الجبرانية: الكارما، التقمص، وحدة المادة والروح، الذات الصغرى والعظمى، الله تذكيرا وتأنيثا، العين الثالثة، عيش اللحظة الآنية، الاصغاء الى الصمت... وايضا درس "الاثر الهندي في ذروة ما وصل اليه جبران والى ماذا اوصل جبران: ديانة جبران، او الدين بالمفهوم الجبراني....". في وجه جبران، "نبي على الطريقة الهندوية"، يقول صليبا، "ومسيحه مسيح التيوزوفية الهندوية، مسيح على صورة بوذا او اخ شقيق له. فهو ليس إلها تأنس، بل انسان تأله. وجبران أخ آخر ليسوع المسيح".
كل فكر جبران، إلهاماته، وحيه، "عمارته" تجعله "رائد عصر الصوفية الميتادينية او الروحانية العابرة للاديان"، على قول صليبا. "مَسْحن جبران نفسه، تأثراً ربّما بالأجواء التيوزوفية التي كانت تنتظر المخلّص، ورأته بشخص كريشنا مورتي. أعتقد أن جبران كان سبّاقاً إلى عصر الصوفية الميتادينية أو الروحانية العابرة للأديان، والتي تتجاوز العقائد الجامدة في الديانات التقليدية والإبراهيمية، وتدعو إلى الاختبار أي العرفان في ما هو أبعد من الإيمان".
بكل بساطة، كانت ديانة جبران "غير تقليدية وعابرة للأديان". "ديانة الروح". وايضا "ديانة الحب. فالروح والحب عنده رفيقان لا ينفصلان"، يقول صليبا. كتاباته ونصوصه تنضح بمكنونات قلبه، لترسم "معادلة" خاصة. "دين الروح، والحياة بالروح ولها، يفرضان التحرر من الشرائع. وهذه الشرائع انسانية لا دخل لله فيها، لا بل هي فاسدة ايضا... الدين الجبراني اختبار ذاتي وداخلي للمطلق، ولا يحتاج الى طقوس ولا الى شرائع، لا بل هذه الاخيرة تشوه الدين".
يلحّ جبران في دعوة "الاجيال ومواكب الشعوب والامم" الى ديانته، ويتمسك بها حتى الموت. انه النبي، "نبي اورفليس"، "الرسول والمعلم". "والنبيّ ديانته، والنبي ايضا كتابها المقدس". ويقول صليبا: "جبران معلم صوفي وحكيم يوغي، دعا الى دين الروح والحب في ما هو ابعد مما وضعت الاديان من حدود بين الناس وتسبّبت بنزاعات وتقاتل بينهم. انه هندوسي وبوذي بالمعنى الواسع، لا الضيق. اراد ان يكون معلمًا (Guru)، بصدقه وسمو تعليمه. لكنه كان واعيا ومدركًا في الوقت نفسه انه لم يصل بعد الى عيش كل المثل التي علّم. انه نبي "مع وقف التنفيذ". وكان يأمل في ان يواصل مساره العرفاني/التحقّقي في ولاداته التالية... وان لم يكن "النبي/المعلم" بما تحمل هذه الكلمة من معنى، فهو السابق له ومعدّ الدرب له والصوت الصارخ. انه السابق لزمن ما بعد الاديان، مزن الروحانية التي تجمع حيث العقائد والاديان تفرق...".
"النبي" مات، "النبي" عاش... وتستمر ديانته. "ديانة جبران لا تقاس بعديد المنتسبين والأتباع. ووهجها لن يخبو، طالما أنَّ هناك مَن يقرأ "النبي" ويستلهم تعاليمه"، يقول صليبا. ما يميّز "نبي" جبران عن انبياء آخرين هو انه "لا يجنّد أتباعاً ولا يبني هياكل وينشئ مؤسّسات. ولا يرسم كهّاناً يتاجرون بالطقوس، ولا يعمّر أسواراً تفصل بين مريديه وسائر الناس. ولا يلزم المريدين عقائد جامدة. والحقيقة في عرفه ديناميكية تتطوّر مع الإنسان والمجتمعات وحاجاتها. وهو في كل ذلك مميّز ومختلف... ويبقى دوره قائماً، وتعاليمه لا تشيخ".
(*) الكتاب اصدرته دار ومكتبة بيبليون- جبيل- لبنان.
