الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

صناعة التطرّف

المصدر: "النهار"
مازن الخيرات- ناشط سوري
صناعة التطرّف
صناعة التطرّف
A+ A-

يتماهى التطرف مع كل فكر يرفض التعايش مع الآخر أو يشيطن الآخر أو يدعو لنبذ أو قتل الآخر. وبهذا التعريف فإن جميع الأطياف الفكرية وعلى رأسها العلمانية، فيها من التطرّف ما يوازي ما يسمى بالتطرّف الأسلامي أو أي تطرّف ديني آخر. إن عدم البحث عن نقاط التقاء وتقارب من الآخر، وعدم التقليل من هوة الاختلاف بمستوياتها الآيديولوجية والمجتمعية والعلمية، يولّد البغضاء والتشاحن ويقسم المجتمعات ويصنع الكنتونات ويسفك الدماء ويدمر الأوطان.


ومن الملاحظ في التاريخ العربي الحديث أنه وفق هذا التعريف، قد مورس التطرّف بشكل منظّم من قبل حكومات لطالما تبجحت بالانفتاح والحرية والتعددية، في الوقت الذي طبقت فيه كافة أشكال الاستبداد على فئة مجتمعية دون الأخرى. وكذلك بعض المجتمعات الغربية التي يحكمها القانون ولديها مساحة وافرة من الحرية،فقد مارست التطرف بشكل ناعم وذلك بتهميش فئاتمجتمعية دون الأخرى، ما دفعها إلى الانغلاق والانعزال عن محيطها وعدم الاندماج في المجتمع بشكل فاعل، وهذا ما دفع البعض منها إلى الارتماء في أحضان "الدولة الإسلامية " في العراق والشام (داعش) تاركين كل رغد العيش والحضارة التي تقدمها الدول الغربية لمواطنيها،ليقاسوا ويلات الحرب ويواجهوا مصيرًا مجهولا، لا بل ليسخّروا كل ما اكتسبوه من علوم وخبرات وأموال في مجتمعاتهم الأصلية لقتالها، محققين بذلك هدفين: الهدف الأول الانتقام من الدول والمجتمعات التي عانوا فيها من التهميش والتضييق حسب اعتقادهم. والهدف الثاني وهو إيجاد حاضنة يمارسون فيها كل ما يعتقدون أنه حقّ رباني أو أمر إلهي، لا يجب أن ينازعهم فيه أحد، مستندين على نصوص أو مراجع دينية فهموها بطريقتهم الخاصة، ويراها الكثيرين من ذوي الاختصاص انها جانبت الصواب إلى حد ما. وما يعقّد المشكلة أنه يصعب إقناع أصحاب الرأي والعلم بالعدول عمّا بدأوا به، لأنهم يحتكمون لسنوات التطرف الفكري "حسب التعريف الذي بدأت به" والذي مارسه الآخر عليهم، من مجتمعات أو حكومات تركت لديهم ما يكفي من الحجج لعدم العودة إلى الخلف ورفض فكرةالتعايش التي يرون فيها مصيدة تعيدهم إلى المربّع الأول.


يجب ألاّ نغفل النوع الأغرب من التطرف المبني على أحقاد دينية وديموغرافية عمرها مئات السنوات، استطاعت بعض العقول أن تجعل منها منهاجًا مكّنها من توريثها عبر الأجيال والعصور، وجعلها ككرة الثلج، تكبر من جيل إلى جيل، وقد لا تخلو نشرة أخبار خلال اليوم من حدث سبّبته تلك الأحقاد، فأصبحت موضع تندّر عند أي مراقب محايد.


إن سنّة الخالق في الكون هي الاختلاف، وقد شمل النبات والحيوان والانسان في الشكل واللون والنشاط،لكنه سبحانه بيّن في محكم تنزيله الحكمة من هذا الاختلاف حيث قال في سورة الحجرات: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) إن هذه الآية لم تخاطب المسلمين أو المؤمنين بل خاطبت جميع الناس بمختلف أعراقهم وأشكالهم وأديانهم، وبيّنت لهم أن الحكمة من تنوّعهم هي التعارف والتقارب لا النفور والاقصاء والبغي وسفك الدماء. لن تُحلّ أزمات الشرق الأوسط بالمدى المنظور، فلا عصا النبي موسى ولا جيوش سيدنا سليمان مسخّرة لطرف دون الآخر، وإن الضرر الهائل موجود في العقول والقلوب يتراكم عبر السنوات ويحتاج الى الجهد والوقت الكبير والفكر المنير لإصلاحه.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم