السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

ريتشارد غير في تشيكيا: قائد بوذي يعلن الثورة ضد الصين (بالصور)

المصدر: كارلوفي فاري ــ "النهار"
ريتشارد غير في تشيكيا: قائد بوذي يعلن الثورة ضد الصين (بالصور)
ريتشارد غير في تشيكيا: قائد بوذي يعلن الثورة ضد الصين (بالصور)
A+ A-

شهد مهرجان كارلوفي فاري الويك إند المنصرم زحفاً بشرياً هائلاً لم يحدث مثيلٌ له طوال السنوات الأخيرة. أهي الحرارة المرتفعة التي جعلت الناس يقصدون المساحات المفتوحة، أم أنها الاحتفالات التي عمّت الشوارع والساحات لمناسبة بلوغ التظاهرة السينمائية الأهم في أوروبا الوسطى دورتها الخمسين؟ أو ربما حلول الممثل الأميركي ريتشارد غير ضيفاً باهظ الثمن على سهرة الافتتاح لتسلّم جائزة فخرية عن مجمل أدواره التي كرّسته ممثلاً من الصفّ الأول؟ أياً تكن الأسباب الكامنة خلف "جماهيرية" هذا العرس السينمائي الشعبي، فيمكن القول إنّ كثيرين من زوّار كارلوفي فاري لن ينسوا ليلة صخبٍ رهيبة استمرّت حتى الفجر، رقصاً وغناءً وموسيقى. في الباحة الخارجية لفندق "تيرمال" الذي يتحوّل مقرّاً للمهرجان طوال تسعة أيام، عزفت فرقة موسيقية ألحاناً تشيكية متنوعة مخلدةً لحظة جميلة في حياة التشيكيين، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً ومراهقين. الأكبر منهم سناً تذّكروا أيام الستار الحديد الذي قبض على حرّيتهم، فيما أصغرهم راح يُمعن النظر في المستقبل الذي ينتظره. المدينة كلها تحوّلت احتفالية مفتوحة، حيث تساوى المنتجون الذين يرتدون السموكينغ بالطلاب البراغيين الذين ينتعلون صندلاً وعلى ظهرهم شنطة.



العرض الذي خصّصته إدارة المهرجان للافتتاحية، اتسم بالطول والغوص في التفاصيل. مبادرةٌ لا مفرّ منها عندما نحصي عدد الدورات والمحطات التي يتوجّب المرور عليها، ولو سريعاً، في سيرة مهرجان عرف الصعود والهبوط، وعاصر آخر ستة عقود من تطوّر السينما ونهضتها في العالم، محتفياً بعدد غير قليل من السينمائيين من بينهم لويس بونويل وميلوش فورمان ورومان بولانكسي. والأهم من هذا كله، أدرك في منتصف التسعينات ضرورة فكّ الارتباط بالسطوة الروسية التي كانت حوّلت كارلوفي فاري طوال سنواتٍ ساحةً لأفلام الأصدقاء والحلفاء. المقدّم ماريك إبن استخدم بعضاً من خفة دمّه وهو يواكب المَشاهد التي تتدفق خلفه على الشاشة العملاقة. صور ولقطات الأرشيف راحت تتسارع على إيقاع التعليق الصوتي لماريك إبن، حيناً بصوتٍ نوستالجي خافت وحيناً بسخرية لاذعة. الحرب الباردة، الفنّ المؤدلج، البروباغندا، هذه كلها مرتّ أمام عيون أجيال عدة من السينيفيليين، وتعالى الضحك في الصالة عند عَرْض لقطة لرئيس المهرجان ييري بارتوشكا مقدّماً البيرة للممثلة الأميركية ميّا فارو.



اللحظة الفاصلة في حفل الافتتاح تجلّت بصعود ريتشارد غير إلى المسرح لاستلام جائزة "الكرة البلورية" من يدَيْ بارتوشكا، رئيس المهرجان الذي تابعناه في المواد الأرشيفية وهو يتقدّم في السنّ ويُجمِّل الشيب شعره. تصرّف الممثل الأميركي البالغ من العمر 65 عاماً بعفوية لافتة، فانحنى أمام الرئيس في حركة غير مُنتظرة. دعابة دامت ثواني معدودةً، تسارعت خلالها وتيرة فلاشات المصوّرين. عندما نهض من "انبطاحته"، راح يبوح بكلّ ما يتبادر الى ذهنه، فصرّح أنّ مهنته الأساسية هي أن يكون أباً لأولاده، أما التمثيل فيأتي في المقام الثاني، معترفاً أنّ الكثير من اللقطات التي مرّت في الشريط المعروض، لا يعرف حتى من أي فيلم أُخذت.



كأي أميركيٍّ مكلّف باصلاح العالم من هنّاته وعيوبه، لم يتوانَ غير من إقحام السياسة في اللحظات القليلة التي حمل خلالها الميكرو. نجهل ما الذي ذكّره بالدالاي لاما (الزعيم الروحي لأقليم التيبيت) ــ والأرجح انه كان خطاباً مكتوباً في البال ــ فقال إنّ الزعيم يبلغ هذه السنة ربيعه الثمانين، فحيّا فاتسلاف هافيل على الجرأة التي تحلى بها عندما دعا الدالاي لاما الى بلاده يوم كان رئيساً للجمهورية التشيكية، خلافاً لكثر من القادة الذين خافوا أن يُقدِموا على المبادرة نفسها خشية إغضاب الحكومة الصينية.
علاقة غير بالبوذية تعود الى نحو نصف قرنٍ مضى. كان في بداية العشرينات من عمره عندما اكتشفها. في مقابلة مع ملفين ماكلويد، روى أنه "لم يكن يشعر بالسعادة كمعظم الشباب الذين في مثل سنّه". ما عاد يذكر إن كان ميالاً للانتحار، ولكن كانت تجول في خاطره أسئلة من نوع "لِمَ هذا كله؟". أمضى لياليه في المكتبات ينكبّ على مطالعات في اتجاهات مختلفة. ثم اكتشف كتب والتر ايفانز وينتس عن البوذية في التيبيت، فكان وَقْعها كبيراً عليه. رابطه الروحي بالدالاي لاما، يقول غير، عميق جداً، وهو رابط صديق ومعلّم في آن معاً. "بين حينٍ وآخر، يستاء ويغضب ككلّ البشر، ولكنه على درجة عالية من الصبر والسخاء والعاطفة والحبّ، وهذه الطاقة بلورها في داخله بنفسه، ولم ينلها بعصا سحرية". بيد أنّ اعتناق غير البوذية لم يتوقف عند هذا الحدّ، بل امتد الى رغبته في انجاز فيلم عن بوذا من إخراج شيخار كابور وتمثيل غولدي هاون، فضلاً عن دعوته إلى مقاطعة الألعاب الأولمبية في بيجينغ العام 2008، ما تسبب له ببعض المتاعب في هوليوود.



علاوة على الجائزة الفخرية التي أُسندت اليه خلفاً للممثل الأميركي ملّ غيبسون العام الماضي، شارك غير في فيلم المخرج الإسرائيلي أورن موفرمان، "تايم أوت أوف مايند"، الذي عُرِض في الافتتاح، حيث يضطلع بدور رجلٍ مشرّد بلا مأوى يحاول إعادة بناء العلاقة بينه وبين ابنته التي تخلى عنها في الماضي. من أجل الاضطلاع بهذا الدور (دور المتسوّل)، روى غير في المؤتمر الصحافي الذي عُقد غداة الافتتاح، بأنه مكث في زاوية أحد الشوارع بعدما وضع قبعة على رأسه. لوهلة، شعر بالتوتر ولم يلتفت إليه أحد طوال الدقائق الـ45 التي استغرقها التصوير. وضع بعض المارة النقود في كوب القهوة الذي كان يحمله في يده، وتفادوا النظر في عينيه. "أعتقد أنني جمعتُ نحو دولارين ونصف الدولار!"، قال صاحب الشعر الأبيض اللامع مبتهجاً.
في اللقاء مع الصحافة، تطرّق غير الى مسائل أكثر جدية كقضية التيبيت التي يُعتبر أحد مناصريها والمدافعين عنها منذ أواسط الثمانينات، فأعلن أنّ الربيع التيبيتي آتٍ لا محالة! بدأ الحديث عن التيبيت عندما سأله صحافي عن عدم ترحيب السلطات الصينية به، فكان ردّه: "الصينيون يرحّبون بي ولكن الحكومة الصينية لا تفعل. لم أستطع زيارة الصين منذ العام 1993. ولكن أنتم (التشيكيون) في إمكانكم أن تفهموا هذا. الجمهورية التشيكية تفهم الشيوعية جيداً. ولكن، هذا كلّه سيتغير كما تغير عندكم، وسيكون هناك ربيع براغ في التيبيت. علينا التمسّك بطول الأنات والحفاظ على الثقافة التيبيتية التي تحاول الحكومة الصينية تدميرها بالكامل"، رافضاً فكرة أن تكون هناك صفقة بين بوذيين تيبيتيين منفيين إلى الخارج والحكومة الصينية. وذكر الممثل الذي اضطلع بأدوار مهمة بإدارة كلّ من تيرينس ماليك وبول شرايدر وفرنسيس كوبولا إنه ثمة مخاوف من أن تفرض الصين زعيماً روحياً "مدبَّراً" على التيبيتيين في حال رحيل الدالاي لاما. "هناك خوفٌ، وهذا الخوف مبنيٌّ على معطيات. فالحزب الشيوعي الصيني سبق أن صرّح أنّ الصينيين هم الذين سيقرّرون مَن هو الشخص الذي سيخلف الدالاي لاما، وهناك دراما حالياً لمعرفة مَن سيكون الزعيم الروحي المقبل للتيبيت".



في المقابلة التي أجرتها نشرة المهرجان مع ريتشارد غير، روى أنه- خلافاً لِما يعتقده الناس- لا يملك مئات الخيارات لتجسيد هذا الدور أو ذاك، بل يفاجئه أنه لا يزال مطلوباً في سوق العمل. قال: "في السنة ونصف السنة الأخيرة، مثّلتُ في أربعة أفلام، لم أفعل هذا من قبل. لم يحصل هذا لحاجتي إلى المال، بل لأنني أحببتُ المشاريع. في الحقيقة، عائدات هذا النوع من الأفلام قليلة جداً، لذا أفعل ما أحبه".



عن دوره الأسطوري في "أيام الجنة" (1978) لتيرينس ماليك، قال غير إنّ هذا الفيلم هو أول عمل عظيم شارك فيه، وحقيقة أنه حطّ في كانّ شرّعت له أبواباً كثيرة. تذكّر كيف كان صعباً عليه الخضوع لامتحانات ماليك الذي حاول أن يجد شركاء له في التمثيل، وكان دائماً متردداً ويعود مراراً وتكراراً الى الامتحان نفسه. ثم، في إحدى المرات، ضاق ذرعاً وقال لماليك إنه لم يعد يهمّه التمثيل، وإذا لم يقرّر فوراً فسيرحل. أما عن "امرأة جميلة")1990)، فاعترف أنه أجرى تعديلات عدة مع المخرج غاري مارشل لإخراج الشخصية من نمطيتها وجعلها "أكثر من مجرد ثري ببزة رسمية"، عازياً نجاح الفيلم الى الكيمياء التي حصلت بين الممثلين. "لو وضعتَ أشخاصاً آخرين في الفيلم نفسه، لما حصلنا على النتيجة ذاتها. هذا الفيلم هو خلاصة لقاء النصّ والمخرج وجوليا روبرتس وأنا. جوليا كانت ساحرة. اللقاء بيننا أحدَثَ شرارة، الأمر الذي لا يحدث دائماً، وهذه الأشياء لا تستطيع الحصول عليها بالقوّة. لا يمكن إنجازها بواسطة الكمبيوتر. لو كان ذلك ممكناً، لأعادت الستوديوات الفيلم عشرات المرات. البشر ليسوا كمبيوترات، البشر كائنات غامضة". أمّا عن الأشياء التي تثير قلقه في الراهن، فكشف غير أنّ العنف المنتشر في العالم والمتفلت من عقاله، محطّ اهتمام لديه، متسائلاً كيف يُمكن البشر العاقلين أن يسمحوا لهؤلاء بالتمادي الى هذا الحدّ. "لمَ لا نتولى رعايتهم، لمَ لا نتعاطى معهم بنحوٍ يبرز ما هو محبّ فيهم، لا ما هو عنيف؟".


(تصوير ه.ح.)

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم