السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

وفاة رائد جراحة الدماغ والأعصاب البروفسور جدعون محاسب

وفاة رائد جراحة الدماغ والأعصاب  البروفسور جدعون محاسب
وفاة رائد جراحة الدماغ والأعصاب البروفسور جدعون محاسب
A+ A-

توفي البروفسور جدعون محاسب عن عمر ناهز 87، وهو رائد جراحة الدماغ والأعصاب في لبنان والشرق الأوسط،، أستاذ في كلية الطب في جامعة القديس يوسف، رئيس مؤسس قسم جراحة الدماغ والأعصاب في مستشفى أوتيل ديو (1973-1992)، حامل وسام الأرز الوطني من رتبة كومندور (1992)، رئيس "الجمعية اللبنانية لجراحة الدماغ والأعصاب" (1991-1994)، مؤسس ورئيس شرف مدى الحياة لـ"الجمعية العالمية لجراحي الدماغ والأعصاب اللبنانيين"، عميد مؤسس كلية الطب في جامعة الروح القدس (الكسليك)، بين العام 2002 والعام 2007.


محاسب من مواليد 12 أيار من سنة 1927 في غوسطا. والده هو منصور بن يوسف بن جدعون (الثاني، من مواليد العام 1817)، بن الياس، ابن جدعون الأول (من مواليد العام 1726). والبروفسور هو ثالث الجداعنة في العائلة، ورابعهم هو حفيده المولود في العام 2007. والدته، لبيبة، هي ابنة يوسف فرنسيس يوسف البري من غوسطا، وتوفيت في ربيع العمر في العام 1934 إثر مرض عضال، فقامت الجدة، ملكة، مع الخال فرنسيس، باحتضان أطفال الأسرة الثلاثة: يوسف، جدعون وروز. غير أن من لعب الدور الأكبر في توجيه خطى جدعون في الحياة، كان عمه الخوري الياس محاسب، الكاهن المفضل والمربي وخادم الرعية المارونية في الاسكندرية، وكان جدعون يعتبره في كل مناسبة "والده الروحي".
تأهل من الكاتبة ليلى جورج الخوري في 14 كانون الأول من سنة 1963، وله أربعة أولاد: سابين، وكلودين، وإيلي، وجورج.


يتحدر البروفسور جدعون محاسب من عائلة عريقة قدمت للكنيسة المارونية العديد من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات، ومنهم من لعب دوراً حاسماً في تاريخ البطريركية المارونية. ويعود نسب آل محاسب إلى الخوري سركيس، "مدبر" حسابات الحكام التركمان على المنطقة، فلقب بـ"المحاسب". وفي العام 1628 أسس الخوري يوحنا، حفيد حفيده، ديراً في عقار "مقبس" في غوسطا، على أنقاض كنيسة قديمة مكرسة لمار شليطا، فكان أول دير ماروني في كسروان بعد "غزوة" المماليك المدمرة في العام 1305، وبقي الدير وقفاً لآل محاسب حتى يومنا هذا. والخوري يوحنا هو والد الشدياق الياس، الذي عمر كنيسة مار سمعان العامودي في غوسطا، والذي هو جد يوسف، جد البروفسور. ولقد لعب دير مار شليطا – مقبس في غوسطا دوراً كبيراً في تاريخ الكنيسة المارونية، فسكنه البطاركة جرجس البسبعلي والمكرم اسطفان الدويهي ويعقوب عواد ويوسف التيان ويوحنا الحلو، وفيه يرقد بالرب البطريركان جرجس البسبعلي منذ العام 1670، ويعقوب عواد، منذ العام 1733. وقد أقر المجمع اللبناني، في العام 1736، اختيار الدير كرسياً أسقفياً رسمياً لأبرشية جبيل والبترون. وكانت الأم إيلاريا، عمة البروفسور، آخر رئيسة لهذا الدير، قبل خلوه نهائياً من الراهبات في العام 1964. كما وثقت ابنة البروفسور الكبرى، الدكتورة سابين محاسب صليبا، تاريخ هذا الدير في كتاب مرجعي، صدر في العام 2008، بعد الدفاع عنه في دكتوراه في العام 2006.
تلقى الفتى جدعون علومه الابتدائية في قريته ("تحت الصنوبرة")، ثم في مدرسة عين ورقة (بإدارة جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة) لمدة ثلاث سنوات تلميذاً داخلياً. ولقصر ذات اليد، اضطر القيمون عليه إلى إيداعه مع أخيه البكر، يوسف، مدرسة الأخوة المريميين في جونيه لمدة سنة، ثم مدرسة الأيتام المهنية للآباء اللعازاريين في بيروت في السنة الثانية، ما أضاع سنتين من تحصيله الدراسي. ثم عاد فالتحق بمعهد الرسل في جونيه، منذ تأسيسه في 7 تشرين الأول من سنة 1940، فأنجز فيه علومه التكميلية والثانوية، حائزاً شهادة البكالوريا في العام 1947.
في معهد الرسل انضم المراهق اليافع والضاج بالحيوية إلى فوج "كشاف الرسل"، الذي أسسه الأب بطرس شلهوب في 15 تشرين الأول من سنة 1940، فكان أول فوج كشفي في جبل لبنان يتبع جمعية كشافة لبنان. وقد تألق في قيادة الفوج ابتداء من تشرين الثاني من سنة 1943، فكان القائد والملهم لكشافيه، من أمثال: المطران رولان أبو جودة والوزير والنائب الراحل جورج افرام، على مثال الأب شلهوب، قدوته في الحياة، قبل أن ينجز بجدارة "انطلاقة الجوال" (Départ routier)، أعلى الرتب الكشفية على الإطلاق، وللمرة الأولى في تاريخ كشافة الرسل. وبوحي من هذا الحدث الكبير، الذي جرى في حوش حريصا يوم الخامس والعشرين من كانون الثاني من سنة 1947، وضع الأب شلهوب، فوق بطاقة الدعوة، الآية اللافتة، من "سفر القضاة": "ورجع جدعون بن يوآش من القتال عبر طلعة حارص" (قضاة، 8، 12). وكتب له الأب شلهوب في العام 1951: "ما زلنا، في عشيرة الجوالة، نحتفظ بعصاك المثناة (fourche)، تذكاراً غالياً لا يمحى لتلك الانطلاقة الأولى. وما زال الكشافة والجوالة يلهجون بذكرك (...)، ويدعونك تحبباً "الرئيس العام" ".
قرر الفتى جدعون دراسة الطب، حلمه الكبير، الذي ما كان له أن يتحقق لو لم يلقَ من عمه الخوري الياس، ومن أخيه البكر يوسف (مدير "البنك العربي" لاحقاً)، كامل الدعم المعنوي والمادي. تسجل في سنة العلوم التحضيرية في جامعة السوربون، قبل أن ينتقل إلى مونبلييه، أحد صروح الطب في فرنسا. وفيها استمع ذات يوم، في "المركز الكاثوليكي الجامعي"، إلى محاضرة للبروفسور كلود غرو (Claude Gros)، جراح الدماغ المشهور (قبل أن يصبح أستاذه في ما بعد)، حول جراحة الفَص الجبهي (Lobotomie frontale)، فأُخذ بالتحول الذي تُحدثه جراحة بسيطة كهذه في شخصية الإنسان، فينتقل من حال العدوانية الخطرة إلى حال من الهدوء والصفاء. كان لهذه المحاضرة وقع هائل في نفسه، إذ رغب بعدها في التخصص في طب الدماغ والأعصاب. وكتب في العام 1949، عامه الدراسي الأول في الطب (بعد السنة التحضيرية في العلوم العامة): "في تلك الليلة، في معرض الحديث عن الجراحة، أسرَّ إلي صديق (زميل في الدراسة) بهذه الكلمات: "لا أجد نفسي على الإطلاق موهوباً للجراحة، لأنني أفتقد رباطة الجأش، وتلك المثابرة على العمل اللتين لا بد منهما لكل موهبة في الجراحة". في تلك اللحظة، أحسست بقشعريرة هزت كياني، وأنا أسمع هذه الكلمات. فقلت لذاتي: "إذاً، أنت الجلود، الواثق بنفسك، المتحلي برباطة الجأش، ستكون جراحاً، وستكون بالتحديد جراحاً في الدماغ والأعصاب".
في العام 1954 أنهى جدعون دراسة الطب العام بامتياز في جامعة مونبلييه، إلا أن إنجازه الفذ تمثل في اجتيازه "مباراة الإقامة" (Concourt d'internat) في العام 1956، وكان أول طبيب لبناني يسجل هذا السبق الأكاديمي في تاريخ الجامعة. وفاجأ "الدليل السنوي لسلك الأطباء المقيمين في مستشفيات مونبلييه" قراءه بصورة لدفعة العام 1956، وفيها تسعة أطباء، بدلاً من الثمانية الملحوظين قانوناً، لأن واحداً من غير الفرنسيين، اللبناني جدعون محاسب، حلَّ رابعاً في الدورة.
شرع في ممارسة الطب في المستشفى، أولاً كجراح مساعد، ثم كجراح مسؤول، منصرفاً طوال ست سنوات إلى التخصص في جراحة الدماغ والأعصاب (neurochirurgie)، تحت إشراف البروفسور غرو، بين العام 1956 والعام 1961. فحاز، في تلك السنوات، على دبلوم في الطب المجلوب (Médecine exotique)، في العام 1958، ثم شهادة الدكتوراه في جراحة الدماغ والأعصاب بأعلى درجات الشرف مع تقريظ اللجنة الفاحصة وجائزة كلية الطب في جامعة مونبلييه عام 1960، ودبلوم دراسات خاصة في طب النفس الدماغي (Neuro-psychiatrie)، في العام 1961، قبل أن يعين "رئيس عيادة" في كلية الطب في جامعة مونبلييه. وكانت خاتمة عمله ودراسته في فرنسا، التحاقه بـ"مستشفى فوش" في باريس، التابع لجامعة باريس، لمدة ستة أشهر (تموز-كانون الأول من سنة 1961).
أتى التحاق الطبيب جدعون بالمستشفى الباريسي تمهيداً لعودته إلى لبنان، ولكي يكون رائد جراحة الدماغ والأعصاب، ومطلقاً إياها في "مستشفى أوتيل ديو" الفرنسي في بيروت، المرتبط بعقد مع جامعة باريس من أجل التزود بالخبرات الطبية الطليعية.
عاد الطبيب المتميز إلى بيروت ليلة عيد الميلاد من سنة 1961، بعد أربع عشرة سنة متواصلة من الدرس والتميز، وبعد تمرسه بتقنيات جراحية جديدة وجريئة مع البروفسورَين غرو وجيرار غييوه (gérard Guiot). وسيكون الدكتور الشاب أول من يُدخل هذه التقنيات إلى لبنان والشرق الأوسط، فضلاً عن غيرها مما أتقنه لاحقاً في بورلينغتون بالولايات المتحدة الأميركية، أو في مراكز أوروبية مرموقة في جراحة الدماغ والأعصاب، أو مما عمل عليها وبلورها بنفسه.
بدأ الطبيب جدعون عمله في "مستشفى أوتيل ديو" بصفة "مستشار"، واضطر إلى استدانة مبلغ خمسة آلاف ليرة لبنانية لاستئجار أول عيادة له (في بدارو) وتجهيزها، عاملاً في عدة مستشفيات (رزق، اللبناني، المقاصد، البربير، مار يوسف الدورة وغيرها).
ثم بدأ مسيرة تدريسية في كلية الطب في جامعة القديس يوسف، إلى جانب ثمانين عملية جراحية ناجحة في الدماغ والجهاز العصبي أجراها في العام 1962 وحده. وكانت له، منذ هذه السنة، عمليات جراحية استثنائية في لبنان وخارجه، مثل: أول عملية تجسيمية لمعالجة مرض "الباركنسون" في العام 1962، أو إدخاله تقنية الجراحة عبر الأنف للغدة النخاعية في العام 1967، وعملية "كلووارد" في السنة عينها، والجراحة الميكرووية مع التجلط الثنائي القطب في العام 1969، وجراحة استئصال النصف الدماغي في العام 1977، وجراحة سد الأورام الوعائية بالسانوكريلات في العام 1980 وغيرها الكثير.
لم ينقطع الطبيب اللامع، مع ذلك، عن الدرس والتحصيل، إذ اجتاز بامتياز مباراة "الأستذة" الرسمية في باريس في العام 1966، وتدرج في رتبه الأكاديمية المختلفة في كلية الطب في جامعة القديس يوسف، وعمل في العام 1969 على وضع أول مدماك في تأسيس قسم جراحة الدماغ والأعصاب في مستشفى أوتيل ديو، برتبة رئيس قسم مشارك، قبل أن يستقل القسم نهائياً يوم تعيين الدكتور محاسب رئيساً له في العام 1973، بعد بلوغة أعلى رتبة جامعية، وهي: الأستاذ الأصيل، في العام 1972. وظل البروفسور محاسب يدرس مادة جراحة الدماغ والأعصاب في جامعة القديس يوسف حتى العام 1994، بعد عامين على تقاعده القانوني.
رافق البروفسور محاسب آلام محنة اللبنانيين في الحرب، فلم يفارق وطنه أبداً، فعالج المئات من الحالات المستعصية، وأنقذ حياة كثيرين، بمن فيهم: عاصي الرحباني (مع البروفسور غرو)، ما جعل الرئيس الياس الهراوي، ممثلاً بوزير الصحة جميل كبي، يمنحه وسام الأرز الوطني من رتبة كومندور في 5 أيار من سنة 1992، تقديراً لخدماته في الحرب. وهو لم يبخل بعلمه الكبير الكثير من المرضى في أنحاء العالم، بين البلدان العربية والأفريقية، بناء لتفويض من "منظمة الصحة العالمية" أو من "الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم" وغيرها.
لم ينقطع البروفسور محاسب، على الرغم من مسؤولياته الكثيرة وعملياته الجراحية، عن متابعة البحث العلمي، مشاركاً في كثير من المؤتمرات العلمية الدولية، محاضراً فيها، ناشراً العديد من البحوث العلمية في نطاق اختصاصه. وهو عضو مؤسس في كثير من الجمعيات المحلية والدولية، كما ترأس "الجمعية اللبنانية لجراحة الدماغ والأعصاب" (1991-1994)، وكان أمين سر "جمعية جراحة الدماغ والأعصاب في الشرق الأوسط" (1992-1996)، وهو العضو المؤسس للجمعية العالمية لجراحي الدماغ والأعصاب اللبنانيين، والرئيس الفخري لها لمدى الحياة. وكانت له حياة حافلة بالنشاط الاجتماعي، منها تأسيسه لنادي روتاري كسروان في العام 1975، وترؤسه له لدورتين، ورئيس لجنة وقف دير مار شليطا-مقبس منذ العام 1969، وعضو الهيئة الإدارية لـ"مؤسسة البطريرك الدويهي" وغيرها.
.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم