الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"السؤال اليوناني" علينا: انطباعات من باريس

جهاد الزين
جهاد الزين
"السؤال اليوناني" علينا: انطباعات من باريس 
"السؤال اليوناني" علينا: انطباعات من باريس 
A+ A-

متابعة اليوم الاستفتائي اليوناني ونتائجه من باريس لها نكهة خاصة لأن هذه العاصمة هي مركز إحدى الدولتين الرئيسيّتين، فرنسا وألمانيا، المؤثِّرتيْن في تاريخ عضوية اليونان في الاتحاد الأوروبي وبصورة خاصة في نطاق العملة الأوروبية الموحّدة اليورو. 


صحيح أن فرنسا الرئيس فرانسوا هولاند "تختبئ"، كما يقال هنا في الإعلام الفرنسي، وراء الموقف الألماني المتصلّب بتطبيق خطة التقشّف المطلوب فرضها على اليونان ورفَضَها الشعب اليوناني أمس الأول الأحد، إلا أن فرنسا منذ عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان مرورا بعدد من الرؤساء الفرنسيين من اليمين واليسار، ساهمت أساسا، بعضوية وربما بفرض عضوية اليونان سواء في السوق الأوروبية أو في الاتحاد الأوروبي أو أخيرا عام 2002 في العملة الموحدة اليورو. والرئيس الحالي فرانسوا هولاند وضع سقفاً للأزمة قبل الاستفتاء جزم فيه أنه لا خروج لليونان من أوروبا أيا تكن نتائجه.
بعد فيلم وثائقي ملفت عرضته المحطة البرلمانية" بوبليك سينا" إحدى قنوات  شبكة التلفزيونات الفرنسية وأعده الصحافي أوليفييه توسكر من مجلة "نوفيل أوبسرفاتور" حول الأزمة اليونانية ينتهي النقاش الذي شاركت فيه مجموعة من الخبراء في الاقتصاد والجيوبوليتيك بملاحظة من أحد المشاركين لم يستطع أن يدحضها أحدٌ من المتناقشين بل وافقوها هي أن شركات السلاح الألمانية والفرنسية كانت صاحبة المصلحة في الضغط باتجاه إقراض اليونان والاستمرار المبالَغ به بسبب حجم مبيعاتها الضخم للجيش اليوناني وتجهيزاته البحرية رغم معرفة فرنسا مبكرا بعدم "جاهزية" اليونان من حيث مستوى فعالية الدولة الاقتصادية مقارنةً بأوروبا. الفيلم الوثائقي الهام يرتكز على شهادات لمسؤولين ألمان وفرنسيين سابقين كبار ساهموا في التعامل مع الموضوع اليوناني ويركِّزون فيها على مسألة أساسية هي أن الحكومات اليونانية السابقة والبنك المركزي اليوناني أخفوا معطياتٍ أساسية من الإنفاق الحكومي عن مسؤولي بروكسيل بعدما بدأت ملامح أزمة الدين اليوناني تتفاقم في التسعينات في السنوات الأخيرة. من وجهة نظر الفيلم "دولة لا تحصل على ضرائب لا يمكنها أن تنجح" في إشارة إلى ثقافة الفساد اليونانية.
المهم إذن في الفيلم أنه ينطلق من سؤال هل كان يجب إدخال اليونان في العضوية الأوروبية وخصوصا في اليورو؟ بينما دار النقاش حوله على خبث القرار الذي قضى بإغراق اليونان بالديون في العقود الثلاثة بل الأربعة الماضية لدعم توسيع السوق الداخلية الأوروبية ولا سيما اهتمام المستثمرين الأوروبيين الشماليين بتحقيق أرباح هائلة من توظيفاتهم في الجنوب الأوروبي الأرخص، وبالتالي فإن هذا الإقراض لم يكن مجرد خطأ متفاقم في بروكسيل حول جاهزية اليونان.
في الشرق الأوسط والعالم العربي لن ينتهي "السؤال اليوناني" بالنسبة لدوله ونخبه وشعوبه عند النتائج  المصيرية على مستقبل هذا البلد وعلى مستقبل المشروع الأوروبي أياً تكن اتجاهاتها. فنحن كمنطقة في بداية "السؤال اليوناني" لا في مراحله المتقدِّمة إذا جاز التعبير. لأنه في زمن انهيارات دولنا ومجتمعاتنا تتضاءل أهمية صعود أو هبوط المعايير اليسارية واليمينية في الرؤى الاقتصادية، الموقف من العولمة والانسحاق الرأسمالي للدول الصغيرة، تحديث هذه الدول في نادٍ كالنادي الأوروبي...
كل هذه المسائل المتقدّمة تتراجع أمام سؤالنا الجوهري أو ما هو جوهري في "السؤال اليوناني" بالنسبة لعالمنا الشرق أوسطي:
هل تخلّفنا العميق هو المشكلة أم سياسات القوى المهيمنة في عالم اليوم أم كلاهما معاً وبأي تفاعل؟ إذْ لا أحب أن أقول بأي نسب لأننا في عملية محاسبة لا في عملية حسابية!
اليونانيون محظوظون مقارنةً بنا رغم كل ما يشكّله وضعهم، خصوصا بعد فوز تصويت "اللا" أمس الأول، من تحدٍّ خطير على المشروع الأوروبي بأسسه لا الاقتصادية فقط بل الأهم ربما السياسيّة والثقافية حتى في أزمة ديون ضخمة! هم محاطون، بالنتيجة، ببيئة أوروبيّة متقدمة يمكنها أن تجد، وستجد، حلولا عاقلة ومفتوحة لمشاكلهم معها ولمشاكلها معهم بالتفاعل معهم مثلما وجدت هذه البيئةُ نفسُها حلولا للحرب الأهلية في إيرلندا الشمالية وللتفاوت بل التخلف الاقتصادي في البرتغال وأسبانيا وستستوعب بصورة وبأخرى التفاوتات الموروثة في أوروبا الشرقية.
أما نحن فتتخطىّ مشاكلنا" "فشل الدولة" إلى "فشل المجتمع" نفسه.
المشكلة: انهيار (هنا) أو تراجع (هناك) الدولة المحليّة وانهيار البيئة الإقليمية المحيطة. أين الفرار؟
دعونا لانحتفل بانتصار لحظة "استقلالية" ديموقراطيّة لسنا قادرين على أي شكلٍ من أشكال استثمارها إذا لم تتماسك مقومات وجودنا الأمنية والسياسية الأساسية.
في دول متماسكة في العالم البعيد عنا لا شك أن قوى اليمين واليسار في العالم الثالث قادرة بعد استفتاء اللا هذا الأحد في اليونان أن ترفع صوتها أكثر أمام مطالب التقشف التقليدية للمؤسّسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي. لكن في أوضاعنا الراهنة يبدو العجز عن الاستثمار السياسي أكيدا.
هنيئاً للديموقراطية اليونانية الأوروبية. فاليونان أدخِلتْ في الاتحاد الأوروبي لأن الثقافة الأوروبية يونانية، وأوروبا لن تخرج من اليونان لأن اليونان أصبحت أوروبية.
أحد المشاركين في الفيلم الوثائقي قال أن اليونانيين المعاصرين عثمانيون وليسوا من اليونان القديمة. نسي المشارك أن تركيا، وبخياراتها الغربية ووسائلها الذاتية في العقود الثلاثة الأخيرة أظهرت كفاءة اقتصادية يحسدها عليها، فعلاً، اليونانيّون.


[email protected]
Twitter: @ j_elzein

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم