الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الموتُ الكبيرُ المنسيُّ في ثلاثة كُتُب

جهاد الزين
جهاد الزين
A+ A-

بعد غدٍ الاثنين تحضر الذكرى الرابعة والسبعون لمجزرة تعرّض لها يهود بغداد في 1 و 2 حزيران 1941 والشهيرة باسم "الفرهود". هذه الذكرى، التي تبدو وكأنها من تاريخٍ ميت رغم قربه الزمني ورغم أنه شكّل أول ضربة كبيرة للتنوّع العربي، تفتح المجال للحديث عن "الحي اليهودي" المنقرض في بغداد ودمشق وبيروت من خلال ثلاثة كتب مختلفة الأنماط.


حاضِرُنا في خراب عظيم لم يكن ممكنا حتى تخيلّهُ فكيف توقّعهُ، منذ سنوات قليلة. مستقبلنا بالتأكيد في خطر على ضوء هذا الخراب. لكنْ ما هو مثيرٌ أن ماضينا أو تاريخ ماضينا القريب والقريب جدا ناقصٌ ومقطّع، وكالكثير من آثارنا مفقودٌ أو مُدَمَّر. أعني هنا ما هو أكثر من الذاكرة المثقوبة، أعني الذاكرة المتصدّعة الجدران والقاعدة.
اليوم، وسط الخراب الحقيقي العظيم في العديد من الدول العربية، إحدى القضايا الأساسية المطروحة والمتَحَسَّسة هي مصير المسيحيين في المشرق الشامي العراقي. وعبرها مصير كل الأقليات.
من تصدّعات جدران الذاكرة في استخداماتها الحالية الإيجابيّة والسلبيّة هو سقوط "الحي اليهودي" الذي عاش في كل مدننا العربية والمسلمة الكبرى ألفاً واربعماية عام (باستثناءات قليلة في شبه الجزيرة العربية) من اليمن إلى المغرب ومن الهند إلى الأناضول.
المدهش أننا هنا حيال أحداث معاصرة تبدو كأنها سحيقة وأخطر ما فيها أنها سقطت من الأدب السياسي العربي حول التنوّع الديني والمذهبي بكل أشكاله حتى أن هذا الأدب السياسي الذي يعي اليوم بقوة مخاطر القضاء على التنوّع لا يحسب في "مخياله" ومرجعيّته أي ذكر لواقع كان عميق الجذور ومديدا بل وجزءاً عضويا في كل تاريخنا ولاسيما الإسلامي  أعني ملابسات الاختفاء التدريجي فالنهائي لكل "حي يهودي" في دمشق وبغداد وبيروت والقاهرة والجزائر ناهيك عن العديد من المدن الأصغر حجما خلال أقل من خمسين عاما بين الأربعينات والتسعينات من القرن العشرين بل عمليا خلال عشرين إلى ثلاثين عاما لا أكثر في حالات عديدة وحتى خلال سنوات سريعة قليلة في الخمسينات كما في الحالة العراقية.
سبق لي أن تناولتُ هذا الموضوع في مناسبات مختلفة في الأشهر الأخيرة من منطلق التنبيه إلى جديّةِ الخطر على التنوّع والأهم الخطر من "اعتيادنا" على غيابه مثلما تعوَّدْنا على عدم وجود حي يهودي في قلب عواصمنا ومدننا وحين نتكلّم عن التنوع فهو لا يوجد، أي الحي اليهودي، في خلفيّة كلامنا كأنه لم يحدث! مع أن الاختفاء وقع في جيلنا نفسه أي كنا شهوداً عليه.
بعد غدٍ الإثنين تحضر الذكرى الرابعة والسبعون لمجزرة تعرّض لها يهود بغداد في 1 و 2 حزيران 1941. كتاب جديد أصدرَتْهُ مؤسّسة الدراسات الفلسطينية في بيروت باللغة العربية للباحث في جامعة أوكسفورد عباس شبلاق له الفضل في جذب انتباهي إلى وقائع تلك المجزرة المسماة " الفرهود" في الذاكرة العراقيّة (عنوانه: هجرة أو تهجير- ظروف وملابسات هجرة يهود العراق).
حسب الفصل الثاني الذي عالج فيه شبلاق تلك الأحداث معطوفاً على نص وثيقة تقرير اللجنة الرسمية العراقية التي نشرها الباحث بين الملاحق - الوثائق المرفقة في الجزء الأخير من كتابه، فإن أعمال العنف التي قُتِل فيها أكثر من مائة يهودي في بغداد فضلا عن أكثر من مئتي جريح كانت حصيلة شغب شعبي في بعض أحياء بغداد. الباحث في كل كتابه لا يُقَصِّر في تحليل التأثير الأهم المباشر لتطورات الصراع في فلسطين على تصاعد الموقف الشعبي المعادي لليهود فيما لجنة التحقيق تتهم عناصر مؤيّدة لحكومة رشيد عالي الكيلاني في الشارع والجيش ( والمتحالفة مع أنصار المفتي الحاج أمين الحسيني) بالمساهمة في العنف ضد اليهود سواء مباشرةً أو عبر "الهمج" كما يسمّيهم تقرير لجنة التحقيق. طبعا لفهم الطروف التي حصلت فيها تلك المجزرة يجب تذكّر أنها بدأت في اليوم الذي كان سيصل فيه إلى بغداد الوصي على العرش العراقي الهاشمي عبدالإله بعد نجاح القوات البريطانية قبل فترة قصيرة في إعادة السيطرة على بغداد وهرب رشيد عالي الكيلاني وبعض أركانه خارج العراق.
لن أدخل في تفاصيل أعمال العنف تلك، لكنْ من الواضح بشكلٍ عام ، والحقيقة في كل ما يتعلّق بخروج اليهود من كل المدن العربية أن اليهود العرب، تلك النخبة المالية والتجارية والثقافية والعلمية والحِرَفيّة "المندمجة" لقرون في الحياة العربية، هم بالنتيجة ضحايا مشروع تأسيس إسرائيل، المشروع الذي جعل، خصوصا بعد تحقيقه عامي 1947 و 1948 وجود اليهود في البيئة العربية مستحيلا وبالتالي خسارتهم، أي اليهود العرب، وخسارتنا معهم لهذا الركن العميق والمهم من التنوّع في مجتمعاتنا ودولنا.
الوقائع تشير إلى أن بعض الأخطاء التي ارتكبها وجهاء يهود بغداد في إبداء حماسهم العلني لعودة القوات البريطانية إلى بغداد في جو شعبي مشحون، أو التقصير، ربما المتَعَمّد، لبعض قادة الجيش والشرطة كما متصرّف بغداد وأمينها في تفاقم أعمال العنف. لكن يبقى الأساس في بغداد كما في بيروت والقاهرة ودمشق وغيرها آنذاك تلك الأجواء المحتقنة بسبب ما يتعرّض له الفلسطينيّون في فلسطين وبما يحظونه من دعم الشارع العربي.
على كل حال بدأنا في السنوات الأخيرة نشهد بين المثقفين والفنانين العرب موجة استرجاع سواء عبر أبحاث أكاديمية أو عبر شهادات سير ذاتية وروائية أو تحقيقات ومسلسلات تلفزيونيّة خصوصاً سوريّة لتجارب وقصص أحياء يهودية في المدن العربية لا يخلو بعضها من رومانسية حنين إلى ماضٍ باتت نخب عربية علمانية وغير علمانية تستشعر فداحةَ غيابِه.
أخصُّ بالذكر هنا كتاب ندى عبد الصمد الشيّق عن الحي اليهودي الشهير في بيروت باسم وادي أبو جْميل وعنوان الكتاب "وادي أبو جْميل - قصص عن يهود بيروت" (دار النهار). فيه تروي بناء على شهادات وتحقيقات مباشرة تجارب نماذج مختلفة من بيئة هذا الحي كلها تنتهي  بانسحاب عائلات يهود بيروت الصامت والسري من بيروت إلى الخارج في الخمسينات والستينات حتى السبعينات. وهي عائلات وشخصيات من رجال ونساء تتراوح من الطبيب إلى التاجر إلى الحرفي إلى العامل وبينها تنويعات كانت ضمن الحزب الشيوعي وحزب الكتائب بشكل خاص. بشر، شباب وصبايا وأطفال ومسنّون يجدون أنفسهم في حالة ضيق بل اختناق اجتماعي وسياسي تدريجي متصاعد وستنتهي دائما قصص ندى عبد الصمد بأن جيران أبطالها الحقيقيين يستفيقون صباحا ليلاحظوا أن هذا المنزل أو ذاك في الوادي قد خلا تماما من سكانه في عملية هجرة صامتة وحذرة جدا.
الكتاب الثالث المختلف الذي قرأْتُهُ مؤخَّراً هو كتاب "قصر شمعايا" لعلي الكردي. دار النشر (دار كنعان) قدّمته كرواية مع أنه يبدو أقرب إلى سيرة ذاتية. أيّاً يكنْ كسيرة أو رواية فـ"مناخه" هو الذي يحمل الدلالة. الراوي هو أحد الفلسطينيين. وصل طفلاً إلى دمشق بعد هروب عائلته الفقيرة من فلسطين  إثر النكبة. كانت هذه العائلة تسكن في غرفة من غرف قصر بناه يهودي دمشقي عام 1865 ووزعت الحكومة السورية غرفه على اللاجئين. الكتاب عن تجربته ومن ضمنها نوع تقاطع حياته نسبيا مع حياة بقايا يهودها المتناقصين منذ تلك الفترة وأي سياق متناقض وضعت الأحداث فيه مصير الفلسطينيين واليهود الدمشقيين حين يكون كلٌّ منهم ليس مسؤولا عنه. هكذا تروي صفحات الكتاب  تفاصيل الفقر والقلق والتنوّع والتحولات السياسية مجبولةً بتجارب الغرام والصداقات والعداوات الشخصية والفرص المكتَسَبة والضائعة عاكسةً البيئة الدمشقية في طبقاتها الغنية والمتوسّطة والفقيرة  وطوائفها من سنة ويهود وشيعة ومسيحيين  وتحولاتها المختلفة ومركزية حضور الدولة الأمني والسياسي ثم تأثير انبثاق الحركة الوطنية الفلسطينية بعد العام 1967.
هناك الكثير على الانترنت مواقع تجمع أنشطة وذكريات "عصبيّات" يهود أو أبناء يهود لبنانيين وعراقيين وسوريين ومصريين وغيرهم عن تلك الأزمنة التي لا يزال الكثير من جيلها المهاجر الأول على قيد الحياة، بل في أعمار مخضرمة ونسبيا شابة خصوصا مثلا الجيل اليهودي الذي هاجر شابا بعد عام 1975في لبنان. وإذا كانت إسرائيل قد نجحت في استقطاب معظم اليهود العرب فإنها لن تتمكّن أن تكون هي "الحي اليهودي" في المنطقة، كما سمّاها مرةً العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني. قد تصبح أو أصبحت دولة إقليمية كبيرة أو حتى في النسيج العضوي لدول المنطقة خصوصا أنها الثابتة حاليا والكثير من الأخرى تترنّح. لكن الحي اليهودي في ما هو جزءٌ من تكويننا الداخلي مات إلى غير رجعة في العالم العربي. مات الحي اليهودي في المدن العربية ولن يعود.
الآن يتفاقم الخطر، سلماً وحرباً، على التنوّع في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن بكل أطيافه. فليكنْ الدرسُ ماثلا إذن. المخاطر  حقيقية إن لم يكن راهنا ففي المستقبل. قد تختفي "أحياء" أخرى مسيحيّة ومسلمة. لذلك المواجهة مشتركة.


[email protected]
Twitter: @ j_elzein

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم