الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

لبنان الذي فضح الجميع

داود الصايغ
داود الصايغ
لبنان الذي فضح الجميع
لبنان الذي فضح الجميع
A+ A-

لبنان وُلـِدَ متحرراً منذ البدء. مبرر وجوده ألاّ يقيده مذهب أو عقيدة أو محور. إنه نشأ على المشارف العالية ومرتفعات الضمائر، منفتحاً منذ الأساس من دون أي قيد أو شرط. وهو وُلـِدَ كبيراً ولو في واحدة من أصغر مساحات العالم.
جاء في دستوره عام 1926 أن حرية الاعتقاد مطلقة. ولم يكن ذلك عبثاً. إذ لم يُنقل هذا النص من أي دستور آخر. فهو انبثق من رحم عملية التكوين. الجميع أحرار في لبنان المحرر. إنه سبق زمانه، سبق يومذاك أحدث تشريعات الغرب. أما الشرق العربي فهو الآن في بداية اكتشافه الخجولة لحرية المعتقد تلك، إثر وثائق الأزهر عام 2012 ودستور تونس عام 2014. ولكن في ما عدا ذلك الشرق ملتهب اليوم بصراعات المعتقدات والمذاهب، وانهيار كيانات أساسية فيه مثل سوريا والعراق.
فلبنان يختلف عن غيره بأن تحرره ذاك لم يحصل نتيجة نضال ضدّ الاستعمار. وحريته لم تتكون نتيجة المطالبات والدخول الى السجون. هذا حصل للكثيرين، وربما لمعظم الدول. فلبنان، عند نشوئه ككيان، أطلق حرية من نوع آخر تكمن في عناصر تكوينه، في دعوته، في قدوته، في اختلاطه الفذ ّ وتعاليه، وقبوله الآخر واحترامه له، ثم في رسالته للشرق كما للغرب. فإذا لم تكن تلك هي الحرية، فماذا تكون إذاً؟
هذا ما حصل وانتهى الأمر، حتى لو لم يفهم الجميع بعد هذه الحقيقة. لبنان لا يربط من خلال روابط بعض اللبنانيين. هذا هاجسهم. ولكن لبنان ليس مجموعة هواجس. فالأوطان لا تُبنى على الهواجس المشتركة والمرجعيات المختلفة. ليس كل من يريد يختار عاصمة تتناسب مع هواه وعقيدته ومذهبه. فهذا سوق وليس وطن. وعاصمتنا هي ست الدنيا وبوابة الشرق.
لذلك لم تكن مشكلة لبنان في نظامه، بل مشكلته مع أنظمة الآخرين. لم تكن المشكلة في حرياته، بل كانت في سجون الآخرين. لبنان فسحة، أمس واليوم وغداً، والآخرون سيّجوا أنظمتهم بالخوف والمخابرات.
في الذكرى العاشرة لانسحاب الجيش السوري من لبنان، في 26 نيسان 2005، توقف اللبنانيون أمام ذلك اليوم التاريخي، وبخاصة لأنه صادف، في الموعد نفسه، الوفاة الغامضة لأحد رموز ذلك النظام. قال البعض إن رستم غزالي رحل مع أسراره. والحقيقة أن طريقة موته تدل على أسراره، ولا حاجة بنا لأن نعرف المزيد.
سوريا مارست وصايتها على لبنان بواسطة مكونات نظامها. ونظامها يحصر السلطات بين أيدي الحاكم. هذا معروف منذ ستالين والأنظمة المستنسخة عنه في أوروبا الشرقية السابقة وبعض دول الشرق العربي التي تحالفت مع الاتحاد السوفياتي.
كانت مشكلة لبنان مع سوريا في الاختلاف الصارخ لنظامي الحكم فيهما. تلك كانت المشكلة الأساسية وسوف تبقى إذا لم تتحول سوريا الى نظام شبيه بنظام لبنان، من النوع الذي عرفته في السنوات الأولى لاستقلالها، ولو لفترات قصيرة. لأنه لا يمكن لبنان أن يغير نظامه من جهة، ولا يمكن أحداً أن يدجّنه من جهة ثانية. الرئيس المصري جمال عبد الناصر أدرك حقيقة لبنان ورفض أن يكون حتى دولة مساندة في ذلك التصنيف يومذاك بين دول المواجهة مع إسرائيل ودول المساندة. وكان الرئيس اللبناني شارل حلو يردد القول: "جمال عبد الناصر حماني" أي أنه حمى لبنان. هكذا فهم القادة العرب الكبار حقيقة لبنان. لا تمد إليه اليد إلا لحمايته ومساعدته لأن يبقى موحداً ومميزاً وذلك لحاجة العرب إليه. لأن العبث فيه ليس صعباً. حافظ الأسد أدرك بعض حقيقة لبنان، لكن طموحه السياسي غطى عليها.
أما فصل السلطات، وأما تداول السلطة وأما الحريات العامة فهي شؤون أفتى الحاكمون بأمرهم أنها لا تصلح لشعوبهم. فأرادوا التوريث بعدما عصفت السلطة برؤوسهم، فأطاح ذلك الجنون حسني مبارك الذي لم يجد بين ثمانين مليون مصري سوى ابنه، وقبله صدام حسين مع ولديه اللذين تسببا بخرابه وخراب العراق، ومع علي عبدالله الصالح وابنه وهو الذي قاده جنون السلطة الى التحالفات القاتلة، ومعمر القذافي وأولاده الذين ضجت أوروبا بفضائحهم، وكان سيف الإسلام وريثه المعلن.
كل مآسي الشرق العربي تكمن في استمرار الأنظمة المتسلطة. الشعب السوري دفع ويدفع أفدح ثمن في التاريخ نتيجة إصرار النظام على البقاء. عام 1967 اعتبر نظام الحكم السوري – البعثي يومذاك – أن إسرائيل لم تنتصر لأنها لم تتمكن من إسقاط النظام. احتلت الأرض وكادت أن تصل الى دمشق ومع ذلك اعتبر وزير خارجيتها آنذاك ابراهيم ماخوس، في مؤتمر الكويت أن إسرائيل هُـزمت. فاستوجب ذلك رداً قاسياً عليه من عبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر، ليُذكـِّر ذلك اللامسؤول أن الأرض هي القضية.
حصل ذلك من حولنا واستمر لعقود طويلة الى أن جاء الربيع العربي بنفحات أمل وببارقة لم تجد حتى الآن بمائها، ولكن لا بدّ لها أن تجود. فالشرق العربي لن يعود الى الوراء، والديكتاتوريات الى زوال.
لبنان ربط بالمحور. هذا صحيح. ولكن ماذا سيفعل لبنان بهذا الربط. إذا كان هنالك مكوّن فاعل ربط نفسه بإيران، فما هي مواقف اللبنانيين الآخرين؟ اللبنانيون ليسوا مجموعة جاليات. فهذا التحالف مع إيران كيف يترجم، ما دام هنالك آخرون. سرّ لبنان أن الآخر موجود ولا يمكن أحداً أن يُلغيه أو يُسيطر عليه باسم أي اعتبار كان، وأي استقواء كان.
ولكن بانتظار عودة الجميع الى الواقع، ليس هنالك سوى التوتر والانقسام والصراع. فأين لبنان أولاً في ذلك؟ أين العيش الواحد والقيم الواحدة والمساحة الواحدة المشتركة. فهل في الخروج عن العروبة مصلحة لبنانية. فهل تستمر تلك المقارنة المغرضة مع السعودية. سعودية الملوك الذين أحبوا لبنان وشعبه واحتضنوا عشرات الآلاف من أبنائه، ودعموا الدولة والجيش والوفاق. مقابل سياسة توسعية حددت أهدافها حيثما هنالك مذاهب متعاطفة معها. فالعروبة شيء، والارتباطات المذهبية شيء آخر. العروبة ليست غريبة لا في لبنان ولا عن لبنان. والقومية العربية نضجت في بيروت. ولكن أين ذلك من تيارات مذهبية معلنة، لا ينتج منها سوى تعريض لبنان وصيغته وتجربته للخطر؟ إذذاك من هو الرابح؟
في النهاية لن يربح سوى لبنان. هذا الرابط مع إيران، الرابط العسكري والسياسي مناف لكل الركائز اللبنانية. لكن الركائز صلبة. فالصداقة شيء، والتحالفات العسكرية شيء آخر. ولبنان امتحن كثيراً حتى الآن، وخرج رابحاً، وهو لن يخرج إلا رابحاً.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم