الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

بولا ونيشان...عن شعب قاوم "محو الذكر" بالنجاح

المصدر: "النهار"
زينة ناصر
بولا ونيشان...عن شعب قاوم "محو الذكر" بالنجاح
بولا ونيشان...عن شعب قاوم "محو الذكر" بالنجاح
A+ A-

لا شكّ في أنّ ذكرى المجزرة الأرمنية التي قام بها الأتراك سنة 1915 مؤلمة، تدعونا للتفكير والإحباط في بعض الأحيان، خصوصاً عند رؤية صور المجاعة والتعذيب والقتل، أو سماع قصص المشي في الصحاري. فنتساءل عن معاني الإنسانية التي لا تنفكّ تدمّر بعضها منذ مئات السّنين. لكن حزن المجزرة والألم المحيطين بها سرعان ما يتحوّلان إلى لوحة مزهرة بألوان واضحة وخطوط صلبة، لوّنتها مقاومة هذا الشعب الذي أثبت أنه عصيّ على الإبادة.
وأكبر دليل على قوّة هذا الشعب وحيويّته هو نجاحه في شتى الميادين، ومن ضمنها الإعلام، التي برع فيها الأرمن - اللبنانيون خصوصاً. وفي المناسبة الجليلة، كان لنا حديثٌ  مع نيشان دير هاروتيونيان وبولا يعقوبيان، اللذين طبعا في الإعلام بصمة قويّة كما جذورهما.


بولا: في رواية أبي الكثير من الأمل والرّجاء
لا بدّ لنا من أن نعرف كيف أثّرت معاناة الأجداد على مسيرة الإعلامية بولا يعقوبيان الناجحة، وإن كانت الدافع لإثبات نفسها أكثر في مجالها. لكنّ بولا لا تعتبر أنّ المعاناة بحدّ ذاتها كانت الدّافع، معتبرةً أنّ "الشخص يعمل أكثر ويحاول أن يحقّق شيئاً في حياته...النجاح كان يعني لي أن يفتخر أبي ويفرح بانجازاتي أكثر من أي شيء آخر".
وتضيف الإعلامية التي بدأت العمل في الإعلام في سنّ الـ17: "الجوّ كان محفّزاً للنّجاح، لأنّه كان جوّاً من الحريّة، ويمكن للشخص أن يفكّر ويقوم بما يريد. لم يكن هناك في يوم من الأيّام جوّ من القمع، أو حدود لما يمكن لأي منّا أن يفعل. نحن لم نتربَّ على المعاناة. كان أبي يخبرنا القصّة كأنّها درس تاريخ. في روايته الكثير من الأمل والرّجاء".


"القضيّة محفّز للفكر"


 وترى يعقوبيان في الوقت عينه أنه من الجيّد أن يكون في البيت "قضيّة نضال وتحرّر... قضيّة شعب يريد الحريّة"، وفي السياق تقول أنها تحمّل ابنها القضيّة البيئيّة، "فالأرض لا تحتاجنا، بل نحن نحتاجها، وعلينا المحافظة عليها". وتضيف: "من الواجب أن يكون هناك قضيّة نعمل من أجلها، ولا نعيش فقط لنأكل ونشرب، لأنها أمر يشدّ الأواصر ما بين البشر وما بين الإنسانيّة،" مضيفةً أنّ "القضيّة محفّز للفكر".
وتعتبر أنه من المهمّ أن ننقلها لأولادنا، وأن نخبرهم ماذا جرى، ولمَ هم مشتّتون في العالم كلّه. وهي تساعد القضيّة من خلال نجاحها وعملها في كلّ مرّة تُسأل عنها. وتعطينا مثالاً على بعض الأشخاص الذين يسألون لمَ أنتم الأرمن هنا؟ مضيفةً بصلابة: "لديّ إجابتي المتكاملة، وحججي. أعرف أن أردّ على من لا يعجبه وجودنا هنا".


تؤكد الإعلامية الحقيقة التي نراها في حبّ الأرمن للبنان، بلدهم: "نحن لبنانيّون مئة في المئة، ومن أصول أرمنيّة. وليس هناك أي تعارض أبداً، لا في حبّ الوطن ولا في الإنتماء، ولا في أي شكل من الأشكال بين أصل الشخص وبين مكان عيشه".
وتعطي مثالاً عن اللبنانيين في كل العالم الذين يبقى حنينهم لبلدهم، مضيفةً: "الأرمن يعتبرون أنّ هذا بلدهم، ونحن جئنا من ولايات ما زالت محتلّة حتى اليوم. لا أحد يمكنه إنكار أنّ هذه أرض الأرمن التي خرجوا منها. الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي يعترفون بها. من بقي ليخبر لغاية اليوم أكبر دليل أنّنا باقون".


تعاطف اللبنانيين مع الأرمن


أمّا عن تعاطف اللبنانيين مع الأرمن، فترى أن "ثمّة لغطًا حول الأرمن وانتمائهم، وتقع المسؤؤلية على الأرمن نفسهم في هذه المسألة"، مضيفةً: "اللغط موجود حول الأرمن في كافّة بلاد العالم، وخصوصاً لبنان، لأنه بلد الطوائف والتشكيك، حيث يعتبر كل لبناني أنه لبناني أكثر من غيره، أو أنه يحب بلده أكثر".


لكن في الوقت عينه، ترى أنّ لبنان يشبه القضيّة الأرمنية، فـ"الجوع والمجازر والتّنكيل باللّبنانيّن ما زال مستمرّاً لغاية اليوم، ولم تنتهِ". وتؤكّد: "نحن شعب موحّد في لبنان. نريد أن نحمي هذا البلد وأن نرفع اسمه، دون أن ننسى جذورنا وهويّتنا.إذا كنّا محصّنين وإذا كنّا فعلاً لبنانيين يمكن حمايته بدل خسارته مثلما خسر أجدادنا أرضهم".


الأرمن ليسوا فقط لبنانيين من ناحية حيازتهم على الجنسية اللبنانية، لكنهم كما تقول بولا "جزء منتج وفاعل في لبنان. رفضوا المساعدات منذ أول يوم جاؤوا فيه إلى لبنان، وبدأوا بالعمل في مهن حرفيّة عدّة".


نيشان: وجع الماضي والحاضر صنع النجاح
من زاويته، يعتبر "العرّاب" نيشان أنّ مسألة الإبادة الأرمنية مسألة وجودية (existentiel)، مسألة حياة، واستمرارية. ويؤكّد: "نحن لسنا طائفة في لبنان. نحن شعب ضمن هذا الشعب. نحن شعب ولسنا مذهباً". ويروي الإعلامي أنه منذ الطّفولة، في القوت اليومي هناك جرعة من الإبادة. والقصص منذ الصغر، البطل فيها يموت أو يستشهد. كل القصص منذ الصغر مصبوغة بالدماء (كلها دماء).
وينطلق من هذا الكلام للحديث عن الأرمن الذين عُنّفوا وعُذّبوا وسيقوا إلى الصحاري، وجُرّدوا من أسلحتهم وعُذّبت نساؤهم. "أنا من شعب إرثه راسخ بالمعاناة. جئت إلى وطن مغروز بالمعاناة... فوضعت وجعي التاريخي على وجع الحاضر وصنعت من نفسي شخصًا متعلّقًا بشباك الشغف والحياة. المضاد الحيوي الوحيد لإثبات أن الحاضر أقوى من الماضي المرّ هو النجاح". ويؤكّد بشغف يشبه شغفه بكلّ ما يقوم به من أعمال ناجحة: "لم يكن لديّ خيار آخر في حياتي غير فعل "نجح". لم أسمح لدماغي أن يقرأ في شيفرته أي شيء غير النجاح".


إبادات كلّ يوم في لبنان
النجاح بالنسبة له هو الأساس، واختار أن ينطلق من نجاحه اللبناني، لأنّ الأرمني سيلحق. "أنا لبناني من جذور أرمنيّة"، يقول بإصرار. أرضي لبنانية وهوايَ لبناني. وكنت أعرف أنني أعيش في وطن مساحته 10452 كلم2 ، ويعتدى عليه كل يوم براً وجواً وبحراً. بالجينات والإرث أنا أرمني . جذوري "أربانيّة"، أي أرمني- لبناني".


ويضيف: "الوجع الذي تجرّعته في تاريخ لبنان المعاصر وفي مراهقتي، والدم والقتل والعنف أحيّت بداخلي ذكرى الإبادة، لأننا في لبنان نشهد كل يوم إبادات صغيرة، فالإبادة تكون إبادة للحرية الشخصية كذلك، وللتنقل. ليس من الضروري أن يكون المعنى الوحيد للإبادة هو التطهير العرقي".


مسألة إنسانيّة... لا دينيّة


كما يشير المتعمّق في الحضارتين الأرمنيّة واللبنانية إلى استخدام الحبر الأعظم كلمة إبادة، معتبراً أنّ استخدامها هو انتصار للإنسانية، لأن الإنكار يشكّل ظلمًا في خاصرة التاريخ. ويكمل ليقول أن وجوده دليل قاطع على أنه كان هناك عزم وعزيمة على الإبادة، مستشهداً بكلام السّفاح جمال باشا حين أعلن أنه ينوي إبادة كلّ الأرمن وإبقاء أرمني واحد ووضعه في المتحف، حتى تدرك الأجيال المقبلة أنّ كان هناك شعب اسمه أرمن، وانتهى.


لكنهم حاولوا أن يبيدوا شعباً بأكمله، ولكنهم فشلوا. ليست مسألة دينية، ولكن إنسانية بحت. ويعتبر نيشان أنّ "جزءًا كبيرًا من إخفاق العثمانيين في محاولة الإبادة هو الإيمان الأرمني والصلة والصلاة. الصلة بشكل أفقي بين البشر، والصلاة بشكل عمودي إلى الله". ويرى "المايسترو" أنّ الإنسان أينما كان يتعاطف مع أخيه الإنسان، لأنها مسألة وجوديّة إنسانيّة.


رواية القصص للجيل الجديد


أما عن مساعدته لقضيّته وقضيّة أجداده من خلال عمله الناجح، فيخبرنا أنه منذ سنة 2001 وحتى سنة 2008، خصّص 7 حلقات لمناسبة ذكرى المجزرة الأرمنيّة في برنامجه التلفزيوني الذي كان يعرض على قناة "الجديد". وفي سنة 2008، سافر إلى أرمينيا من أجل حلقة في "كلام الناس" مع الإعلامي مارسيل غانم.
يعتقد ديرهاروتيونيان أنّ الجيل الجديد بحاجة إلى أن تروى له قصص، لأنها تؤثر به أكثر من دراسة التاريخ أحياناً، مضيفاً: "سررت لردّات الفعل تجاه كلمتي في احتفال معراب بذكرى المجزرة، لأنني لم أتوقّعها. سررت لأن لبنان أعطاني فرصة لأنجح في الإعلام ولأنّ أهلي حفّزوني لأتقن اللغة العربية، ولأنّ للإعلام تأثيرًا كبيرًا، فإما تؤثر كلمتي أو عليّ أن أترك المنبر لغيري".


إسرائيل عدوّ لإجرامها... أما تركيا؟


برأيه، على كلّ شخص أن يقرأ التاريخ وأن يصدر حكمه الذاتي، مؤكداً أن المجازر التي ارتكبت بحقّ الأرمن يجب إدانتها، وأنّ الاعتراف أهم من التعويض المادي، الإقرار قبل التعويض.


ويلفت الإنتباه إلى أن الكثير من اللبنانيين الذين تكلّموا عن تعاطفهم مع المجزرة الأرمنية سيسافرون إلى تركيا بعد 24 نيسان، ويؤكد أن التعاطف بالكلام لا يكفي: "أنا أمنع نفسي من زيارة إسرائيل، لأن هذا ما تمليه عليّ مواطنيّتي وأخلاقياتي، كذلك القوانين والأعراف. المجازر التي اقترفتها إسرائيل في لبنان لا يمكن أن تنسى. إنه بلد عدو لإجرامه، ماذا عن تركيا؟".


اللبنانيون-الأرمن عنصر أساسي في هذا البلد، الذي أعطى البعض منهم أكثر من اللبناني غير الأرمني، من ناحية نجاحه في الإعلام، صناعة الحرفيات والمجوهرات، التمثيل المسرحي الراقي، وغيرها من المجالات. كلّ هذا أكبر دليل على أنّ صمود الأرمن صنع قضيّتهم، التي لم يختصروها بـ"إبادة"، وصنعوا منها نعمة وتصدّروا شتّى المجالات في العالم. الشعب الذي يحمل قضيّته معه لا يموت.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم