الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الرجل الحشرة في عامه المئة

المصدر: "النهار"
رلى راشد
الرجل الحشرة في عامه المئة
الرجل الحشرة في عامه المئة
A+ A-

تخيّل أن تستيقظ صباحا فتجد أنك تحوّلتَ إلى حشرة. تصوّر أن تفتح عينيك مُستلقيا على ظهرك ثم تتحسس جسمك فتكتشف انه فقد كل ليونة وصار جذعُك مجرد قوقعة.


قرنٌ مرّ على ذاك الصباح العبثيّ حين تخلّى رجل بإسم غريغور سامزا عن أطرافه البشريّة ليصير حشرة ضخمة، في أعقاب "أحلام مضطربة".
مرّت مئة عام على هذا الإستيقاظ الغريب الذي أتى بلغزّ محيّر صاحبُهُ كاتب تشيكي يدعى فرانز كافكا. مئة عام على إصدار "التحوّل" وهي ليست قصة قصيرة فحسب، وإنما خرافة خصوصا.
جرى التوقّف مليّا عند نصّ بأبواب كثيرة بينما المفاتيح قليلة. نصّ خرج على المألوف وجاء بشيء من الفانتازيا وبقدرة أكيدة على الإذهال. لكن الفانتازيا التي نصادفها في بداية النص تختفي بسرعة. يحلّ مكانها أمر آخر نسمّيه "واقعية العبث"، أو المناخ "الكافكوي" (نسبة إلى كافكا) الذي صار علامة مسجّلة.
لم يكن كافكا ولن يكون كاتبا كغيره. أما النص الذي أنجزه فمحاولة ناجحة لتحدّي المنطق. هناك غموض إرادي في الحكاية، ورغبة في التأرجح بين الطبيعي والفائق للطبيعة، وبين الفردي والجماعي وبين المأسوي واليومي. من خلال ملاحقة كل هذه المفارقات ربما نفهم المغزى.
يقوم فن كافكا على الإلتباس الجميل، واللافت أن أمورا غير منتظرة تزعج غريغور سامزا في لحظة تحولّه المفاجئة. يقلق من أن ربّ عمله سيغضب من غيابه، وعندما تنبُت في جسمه قرون استشعار (مثل الحشرات) وتظهر على بطنه نقط بيض يسبّب ذلك عنده "إنزعاجا بسيطا"!
ماذا أراد كافكا أن يقول تحديدا؟ إذا قبِلنا بأن الإنسان الحشرة هو كافكا الإنسان، ستصير الحكاية إذا إشارة إلى عجزه عن التأقلم. لم يجد كافكا الراحة في بيئته العائلية والإجتماعية والعمليّة وهو كتب في "رسالة الى الأب" عن احساسه بالنقص أمام أبيه السلطوي والمتعالي. يعتذر كافكا عن عدم تحقيق الصورة التي رسمها عنه والده، بينما تُثبت الوقائع علاقته الشائكة بالنساء. قارب الحبّ على نحو خاص ففضّل رسالة شغوفة من صفحتين على ساعات من العشق الملموس. وربما يعبّر تحوّل غريغور في الحكاية عن عجزه عن العيش في داخل جسده.
لا شك في أن تحوّل كافكا ليس الأول في الأدب، وهو يستعيد على نحو ما موضوعا تناولته الميثولوجيا، لكن كافكا عدّله كما أراد. نجد عند الإغريق صورة الرجل - الأيل والمرأة - العنكبوت، بينما يذكر الشاعر اللاتيني أوفيد في "التحوّلات" عوليس يدنو من إحدى الجزر البعيدة فيرسل رفاقه للإستقصاء. في الجزيرة يحتسون كؤوسا من النبيذ المسموم فيتحولون الى خنازير. يخبر أحدهم تفاصيل ما جرى "رحتُ أًُصدر مكان الكلمات صوتاً يشبه قباع الخنازير بينما إنخفض مستوى جسمي ليقترب من الأرض".
كل ما سبق محاولة لتحليل كافكا من خلال منظور نفساني يدُلّنا على معاناته الكبت. لكن الكاتب أراد في "التحول" أن يقول أكثر، أن يشير إلى خضوع الإنسان المُستغلّ والمُعاقب دوما. يجبر الإنسان على حمل صخرته إلى أعلى الجبل ثم على افلاتها ليعود مرة أخرى ويرفعها، ليتكرّر ذلك إلى ما لا نهاية.
يمكننا أن ندّعي ان "التحوّل" محاولة كافكا ليخبرنا عن رجل يواجه حشرة وانه وبفضل خياله الخصب عبّر عن ثلاثية النبذ والمهانة والموت. لكننا سنفشل حتما في تحديد أسباب هذا الواقع الدقيقة، لأننا محكومون بقدر لا يسعنا أن نفعل شيئا إزاءه.
عالم كافكا على حدة. مكانٌ حيث يمكن الإنسان أن يصطاد في مغطس وهو يعلمُ سلفا انه لن يجني شيئا وأن لا سمكة في الصنّارة!



[email protected] 
Twitter: @Roula_Rached77


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم