الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

رسالة إلى خليل أحمد خليل: كمن يحمل في كل يد شمعة

لندن – فؤاد مطر
A+ A-

تختزن الذاكرة الى جانب اللحظات الوجدانية العابرة، والتي عند استحضارها تبتهج النفوس، بعض الاخيار من الذين ترهبوا للفكر والمعرفة فباتوا على الارض مثل تلك الكواكب التي تتقاسم الشمس والقمر سلطانها.


هذا نراه مجرد لفت انتباه للدولة الساهية عن هؤلاء الذين يسقون العقول بالمعرفة ومنهم الدكتور خليل احمد خليل، لكي تقوم بواجب الاهتمام والتكريم على نحو ما هو حاصل في دول عربية مثل مصر والسعودية. استحضر من الذاكرة ثلاثة رموز من الفكر وعلم الاجتماع هم الدكتور لويس عوض والدكتور علي الوردي والاستاذ توفيق الحكيم. ثمة جوامع مشتركة بينهم وبين الدكتور خليل لجهة التنوير وتبديد التجهيل على انواع منابعه والنأي عن توظيف مضامين العقل في خدمة حالات تباغت المجتمع فتزيده ارتباكاً وتقفل نوافذ الضوء الذي يبدد بعض الشيء عتمة الجاهلية المستجدة.
ومع هؤلاء الثلاثة او المنارات الثلاث، الذين أعتز بصداقتهم كانت هنالك ساعات من المناقشات امتزجت فيها القضايا السياسية وممارسات اهل الحكم ودور المثقفين من جانبي، بجوهر الفكر من جانب الدكتور لويس عوض والاستاذ توفيق الحكيم، وبخصوصيات المجتمع العراقي كجزئية من المجتمع العربي عموماً من جانب الدكتور علي الوردي، مع تمييز بين مجتمع النهر ومجتمع البحر ومجتمع الجبل ومجتمع البادية. وكنا نفيد ونستفيد من هذه المناقشات التي شملت العروبة ونكهة مذاقها الفكري والناصرية بين التألق الوطني وكيف تنال اساليب القمع مع هذا التألق وعدم اقتناع الحاكم بأن اهل الخبرة ومنهم المفكر والاكاديمي والمتقدم علمياً وهندسياً وحسابياً، افضل لمن يحكم من اهل الثقة الذين يضربون بسيف السلطان، وللتجربة الثورية من فتك اطلالاتها الاولى بتجربة ملكية راقية واعتماد السحل اسلوب ترهيب بدل التخاطب بما يعزز الوحدة الوطنية ويحقق التآلف بين القلوب، الى المناطحة من جانب التجربة البعثية للثورة الايرانية التي إستعذبت بدورها مسألة المناطحة فإنتهى البلدان بعد حرب غلب العناد فيها على التبصر ثم بعد غزوة أخ لأخيه، مُقعدَيْن والشعبين مُنهكَيْن والقضية الوطنية خائرة.
أهم ما في المناقشات مع الدكتور لويس عوض والاستاذ توفيق الحكيم أنها كانت تتم بالصوت الخافت في رحاب مكتب كل منهما في "الأهرام" الأكثر تألقاً في زمن سيدها محمد حسنين هيكل، ثم بالصوت العالي البعيد عن ضوضاء التنظيرات، خلال لقاءات مع الاثنين في لندن وباريس، فقد كان الدكتور عوض أحد الكتّاب في مجلة "التضامن" التي كنت أ نشرها وأترأس تحريرها في لندن وبدأت إطلالة الدكتور عوض بدراسة عن جمال الدين الأفغاني أضاء فيها على أصول هذا الداعية وأفكاره، ثم أتبع الإضاءة هذه بثانية حول أعمدة الناصرية السبعة التي كانت رؤية استثنائية لنهج عبدالناصر في إدارة شؤون مصر وفي التعاطي المتعدد الابتكار مع القضايا العربية والإقليمية والدولية. كما أن الاستاذ توفيق الحكيم إختارني ليطلق من خلالي كناشر مهتم بالقضايا العربية عموماً وبالشأن المصري بشكل خاص الوقفة التي أزعجت حواريي الناصرية وجاءت في شكل بضع صفحات تحت عنوان "عودة الوعي". وأما بالنسبة الى الدكتور علي الوردي فإن اللقاءات الفكرية كانت تتم في مجلسه البغدادي وفي مجلسي اللندني والتي كانت في استمرار تجذب النخبة العراقية المثقفة والمحتارة في أمر الطقوس البعثية الحاجبة أي نسائم فكرية كفيلة بترك العقل يأخذ مداه في صياغة المجتمع المتصالح. وما تنتهي اليه المناقشات خلال اللقاءات كانت تتحول الى فصول في النظرة "الوردية" يمكن القول إنها كانت توعية منزهة عن التعصب للعقل العربي عموماً والعقل العراقي خصوصاً كونه في حال ضغوط عليه لا يتحملها من دون فسحة من الرؤى المتأنية التي كانت تنساب في سطور ما يكتبه الدكتور علي أو ما يحدّثنا به.
هذا الذي أكتبه عن القامات الثلاث الدكتور لويس عوض والاستاذ توفيق الحكيم والدكتور علي الوردي بحكم ما تنتهي إليه اللقاءات معهم التي تجمع بين الإصغاء والتنظير وعند الضرورة المجادلة في مجلس كل منهم أو في مجلسي بالتي هي أفيد وأثرى عندما نتفاكر، هو ما عايشته لاحقاً مع الدكتور خليل أحمد خليل وبالذات بعد إنقضاء ضرورات الغربة عن الوطن بين بريطانيا وفرنسا. ففي سنوات الاغتراب درءاً للتحزب الذي يفسد الود والفكر كنت أعرفه من خلال ما يكتب ويؤلف وينشر. وكنت دائماً أغبط الذين يشرف على أطروحات يقومون بإعدادها. وأما ذروة الكسب الفكري فإنها، من خلال لقاءات به، تشبه في بعض ظروفها وموجباتها تلك اللقاءات التي أشرت اليها مع الرموز الفكرية الثلاثة الذين أوجزتُ في سطور العلاقة بهم والانطباع عنهم وكيف أنهم بعدما باتوا ثلاثتهم في ذمة الله ما زالوا أحياء في رحاب التراث الفكري والمجتمعي يُرزقون التقدير والإعجاب من كل قارئ كتبهم. فقد كانوا في حياتهم وآخرين من المعدن الثمين نفسه منارات أضاءت ورفعت من مستوى العلم والفكر والثقافة ولذا فإننا في كل مرة تكفهر سماوات مجتمعاتنا نعودالى ما كتبوه.
رحمة الله عليهم والعمر الطويل للدكتور خليل أحمد خليل الذي بما يكتب في الفكر والدين والتاريخ وعلم الاجتماع يبدو كمن يحمل في كل يد شمعة ونفسه مطمئنة الى أن العتمة الى زوال والمعتمين الى إنقراض... حتى إذا لم يفارقوا الحياة.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم