الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

من المزرعة الى المعدة

مهى البيضاوي- أخصائية تغذية- كاليفورنيا
من المزرعة الى المعدة
من المزرعة الى المعدة
A+ A-

أكل الولد التفاحة، جملة طالما قرأناها وسمعناها، ولبراءتنا توقفنا عندها ولم نفكرْ يوماً بما حصل قبلها وقليلاً بما بعدها. تغيّرت الأحوال اليوم وبات كل شيء متصلاً بالأكل مريباً: صحياً وقواعدياً، بما أن هذه التفاحة ولغاية وصولها إلى فم الولد، لم تتبع ربما أي قاعدة إنتاجية معروفة أو شفافة.
هل فكّرنا بمن قطف التفاحة من الشجرة أو كيف؟ هل هي محلّية أم قطعت مسافات كونها أميركية أو أوروبية؟ وهنا تبدأ الأسئلة، كم عمر هذه التفاحة، كم يد حملتها وتناقلتها، كيف وصلت الى الولد، أو باختصار كيف كانت رحلتها من المزرعة الى المعدة؟ هل كانت كاملة ام متقطعة، مطبوخة ام مجففة؟ معلبة ام مغلّفة بالشمع، مُحلاة ام طازجة؟ بين هاتين الحلقتين توجد سلسة من الإجراءات المعقّدة والمتتالية تتضمن تعاملات كثيرة بداعي الحفظ والتغليف والتخزين والنقل الخ... لذا ومع كل خطوة أو حلقة إضافية تتعرّض السلامة الغذائية لتهديدات عدة منها الكيميائية، والجرثومية وحتى المادية (الاجسام الغريبة).
بدءاً بالزراعة، وهي الآن تعتمد على استخدام الآلات لتحسين الإنتاجية، وعلى المواد الكيميائية الطبيعية والاصطناعية على حد سواء لمكافحة الآفات والأمراض وتعزيز نمو المحاصيل. هذه التقنيات لا تؤثّر فقط على المزروعات، لكنها أيضا تؤثّر على البيئة. لذلك على المزارعين مسؤولية مزدوجة: إنتاج زراعي مع مستويات مقبولة من المواد الكيميائية، وعدم إلحاق أي أضرار بالبيئة، وذلك لأن الزراعة أيضا تستلزم استخدام الموارد الطبيعية: الأرض والمياه، الخ... لإنتاج الغذاء للاستهلاكين البشري والحيواني.
الزراعة عملية معقّدة تتطلّب عناصر مختلفة والآلات للحرث والزرع والحصاد والنقل، وتحتاج لأسمدة لتكملة مغذّيات التربة، والمبيدات الحشرية لحماية المحاصيل ضد الحيوانات والحشرات والأعشاب الضارة ومختلف الكائنات الدقيقة مثل الفطريات والبكتيريا والطفيليات، إلا طبعاً في حالات الزراعة العضوية.
هذه الأسمدة والمغذّيات والمبيدات خضعت لدراسات عدّة قبل استعمالها بشكل روتيني، ولأبحاث دامت سنين طويلة للوصول الى المستويات المفيدة للنبتة وصحة المستهلك. وهنا، نضع موضوع التهجين الجيني جانباً لعدم تعقيد سلسلة الإجراءات.
بعد القطاف، الذي يُعتبر أيضاً تصنيعاً حسب الامكانيات المستعملة، يأتي دور المعالجة وهي ذات أوجه مختلفة وهدفها ببساطة الحفاظ على المواد الغذائية لتمكين استهلاكها خارج دورة الحياة الطبيعية للمنتَج أو المكان الذي نما فيه. هنا ندخل في باب التصنيع الغذائي الذي يطيل عمر السلعة ويجعلها متوفّرة حيث نحتاجها.



سلامة المواد الغذائية المصنّعة تتضمّن:
١- القضاء على الجراثيم و / أو منع تكاثرها المتواجد في المواد الغذائية، والتي يمكن أن تسبّب الأمراض المنقولة عن طريق الأغذية، والعفن أيضا ثم التلف.
٢- الحفاظ على الطعم والرائحة والشكل (والمظهر) ومنع التلف هو أيضاً وظيفة هامة لتصنيع الأغذية. ويتمّ الأمر عبر تعطيل العمليات الطبيعية في الغذاء، مثلاً تعطيل الانزيمات التي تفتت البروتينات والدهون والكربوهيدرات لتسهيل نمو الحيوان والنبات، فعندما يتمّ قتل حيوان أو حصد نبات، تصبح هذه الأنزيمات من دون ضابط وتستمرّ في العمل، وتؤدي إلى التلف، ثم يأتي منع الأكسدة، وهي عملية تعرّض العديد من العناصر الغذائية للأوكسيجين، مما يغيّر الطعم واللون.
تضمّ المعالجة الصناعية إجرءات بسيطة كالتقطيع والتنظيف أو الغسل فقط، وتتعقّد لتصل الى التعبئة والتعليب والتغليف والتبريد والطبخ مع الحفاظ على نسبة الرطوبة ومنع (أو تأخير نمو) الجراثيم.
ذكرتُ الطبخ، ولكنه في الحقيقة عبارة عن معالجة حرارية بطريقتين، إما بالبسترة او التعقيم. في الحالة الاولى، المعالجة الحرارية تتمّ على 72 درجة مئوية على الأقل لمدة 15 ثانية لقتل معظم مسببات الأمراض المنقولة عن طريق الأغذية، ومن ثم التبريد بسرعة حوالي 5 درجات مئوية. والمنتج المبستر ليس معقماً، لذا هو بحاجة للتبريد وتكون مدة صلاحيته محدودة. اما التعقيم اي الحالة الثانية، فالمعالجة الحرارية تتم على 120 °م على الأقل أو أكثر لبضع ثوان، وهذا يقتل معظم الجراثيم ويحبط نشاط الأنزيمات. يتبع ذلك عملية التسخين طبعاً والتبريد السريع. يزيد التعقيم بشكل كبير من الصلاحية، ويقلّل من الحاجة للتبريد طالما بقي المنتج غير مستعمل.
التبريد هو معالجة حرارية أيضا. التبريد والتثليج يحافظان على المواد الغذائية من خلال التحكّم بالأنزيمات لجعلها غير فاعلة ومنع نمو الجراثيم. في هذه الحالة، يجب الحفاظ على التبريد او التجميد بشكل متواصل خلال النقل، والعرض للبيع والتخزين في المنزل او المطعم لغاية وقت الإعداد او الاستهلاك بوقت قصير.
من المعالجات الصناعية القديمة هناك التجفيف (والتجفيف مع التدخين) الذي يساعد الأطعمة على الثبات والاستقرار من خلال تقليل محتوى الماء، وبالتالي، حرمان الجراثيم البيئة الملائمة لتكاثرها.
وإن تعذّرت الطرق المذكورة أعلاه فقد نستعين بالمضافات الغذائية وهي الآن شبه متواجدة في كل الأطعمة المصنعة. على سبيل المثال، تزيد بعض الإضافات من حموضة الغذاء وبالتالي تحميه من التلف. وهناك مضادات الأكسدة التي تمنع الدهون والزيوت من أن "تزنخ".
هل نفكّر بكل هذا عندما نقضم التفاحة ونأكل جزءاً جاهزاً منها؟
أظن اننا لو خُيّرنا بين هذا التفكير وبين إعراب جملة "أكل الولد التفاحة" لاخترنا القواعد، لا، ليس التصنيعية، بل اللغوية. في كل الحالات، "صحّتين".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم