الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

أعترف أنّي كاذب!

عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

أنا كاذب.
أكذب قبل صياح الديك. بعده. وأثناءه. أكذب مثلما أتنفّس. وأتخيّل. وأحلم. أكذب مثلما أنام. وأمشي. وأتثاءب. أكذب وأنا مغمض. أكذب وأنا أمام مرآة.
كلّ ما أكتبه، ينطوي على كذبة. كلّ ما أفعله، يجب فعل عكسه تماماً.
عامِلوني على هذا الأساس. انظروا إليَّ بعيون الازدراء والاستخفاف والاحتقار. دلّوا عليَّ بالأصابع. تجنَّبوني كما يتجنّب الناس المرور بجثّة منتنة.
ضعوا علامة تحذير على صورتي، وعلى موقعي الألكتروني. عيِّروني على الشاشات، في الصحف، في المجلات، عبر الإذاعات، عبر تغريدات الـ"تويتر"، على الـ"سكايب"، وعلى الـ"فايسبوك". عيِّروني في كلّ وقت، وحيث تدعو الحاجة. وفي كلّ موقع ومكان. لا تدعوا أحداً يقع في فخاخ ما أبثّه من أوهام، هي في الحقيقة محض أكاذيب وتخرّصات.
يجب منعي من الكتابة. يجب طردي من العمل. يجب الحؤول بيني وبين القرّاء.
يجب إخبار عائلتي بأنّي لا أُتقن إلاّ الكذب. قولوا ذلك لأصدقائي، لأهلي، لجيراني. ولكلّ الذين أقيم معهم معاملات، أو تربطني بهم علاقة، من صاحب الدكّان في الشارع، إلى عامل محطة البنزين.
كلّ أملٍ كاذب، أُشيعه بين القرّاء، هو بمثابة دواء مغشوش، أو سمّ زعاف.
بل خيانة وطنية.
الواقع كابوس، وأنا أُوهم القرّاء بأن هذا الكابوس غيمة عابرة. الواقع هو الجحيم نفسها، وهذا يناقض تماماً عالم الوهم والأمل والحلم، الذي عيَّشَنا فيه صوت فيروز، وأشعار عاصي ومنصور، حتى صدّقنا أن بلدنا هو وطن الغيم الأزرق. هؤلاء الثلاثة، الموتى والأحياء منهم، يجب وضعهم في الحبس. أوقِفوا بثّ أغانيهم وأشعارهم لأنهم غشّاشون، كَذَبة، مجرمون، وقتلة.
لم يعد الواقع الخطير يسمح لي، ولا لأحد، بمواصلة هذه اللعبة القذرة، فاتركوني أعترف.
لا تقرأوني بعد الآن. لا تسمحوا لأحد بفلفشة صفحاتي، ولا بالاقتراب منّي. قولوا للنساء أن يتجنّبن النظر في عينيَّ، لأني مُفتِن. نبِّهوا الكتّاب الجدد، والأطفال، أن يتفادوا توجيه الرسائل إليَّ. قولوا للشرطي أن يسحب منّي إجازة السَّوق. وليسحب منّي الأمن العام تذكرة الهوية وجواز السفر. يجب منعي من ممارسة حقوقي المدنية. ولأُوضَع في الحجر النفسي والعقلي والصحي. يمكنكم – بل يجب - أن تقدِّموا فيَّ إخباراً للسلطات المعنية. لأن خطري عميم، والأذى الذي يمكن أن ينجم عن أعمالي ليس له من حدود.
أنا كاذب. كاذب. كاذب. أقولها بالثلاث. ماضياً حاضراً مستقبلاً.
بناءً عليه، يجب أن تنفِّذوا المفعول الرجعي لهذا الاعتراف، في ما كتبتُ، وقلتُ، وعشتُ.
إني أعترف. واعترافي هذا ليس مزحة. فأنا صادق هذه المرّة.
لم أكتب الصدق، ولا مرّة. لقد كنتُ كاذباً عندما أوهمتُكم بالأمل. ففي هذا الواقع اللبناني والعربي الخطير، ليس من أملٍ البتّة.
أنا كاذب. كاذب. كاذب. صدِّقوني، هذه المرّة. هذه المرّة فقط.
أنبشوا أرشيف الكتب والمقالات. تثبّتوا من الصور. قارِنوا الأقوال بالأفعال. يمكنكم أن تتأكّدوا من أنّي صادقٌ هذه المرّة. فتأكّدوا.
منذ عشرين عاماً، منذ ثلاثين عاماً، منذ أكثر، وأنا أكتب. كلّ ما كتبتُه لم يكن سوى تخدير الوجع الوجودي بحقن من الأكاذيب.
كلّ الذين غرّرتْ بهم كتاباتي، يمكنهم أن يُشهِّروا بي، وأن يرفعوا دعاوى قانونية في حقّي، طلباً للتعويض عن الضرر اللاحق بهم وبحياتهم.
قال جان جيونو إن الشعراء هم أساتذة الأمل. لطالما استشهدتُ، في مقالات سابقة لي، بقول هذا الرجل، دعماً للهراء الذي أكتبه.
اعرفوا جيّداً أن كلّ ما كتبتُه عن الأمل، كلّ ما سأكتبه عن الأمل، ليس فيه أيّ أساس من الصحّة. إنه فقط سراب الأمل الذي أتعمشق فيه، من فرط اليأس.
أصرخ فيكم أن تصدِّقوا. استفيدوا من فرصة الصدق النادرة هذه. أنا صادق هذه المرّة. فصدِّقوني يا جماعة!


* * *


أتريدون الصدق؟! خذوه: "لبنان الرسالة" تجليطة. أكاد أقول. بل أصبح في خبر كان. صحيحٌ أن التطهير الديني والمناطقي لم يبصر النور تماماً في أرجائه، لأسباب محض تقنية، لكنْ ثمة في الموازاة تطهير "آخر" تتمّ وقائعه فصولاً، وبتؤدة ماكرة. إلى أن يأتي يومٌ، لن يكون فيه لِما يسمّى خديعة "التنوّع الحضاري"، "مرقد عنزة" في هذا البلد.
لن يكون لبنان استثناءً. هو بعضٌ من هذا المرض الذي يستشري في جسم العالمَين العربي والإسلامي، وخصوصاً في مهد الحضارات، هذا الذي يسمّى الشرق الأدنى.
أما سوريا فها هي تتلبنن. وها هو العراق يتلبنن. هل تريدون صدقاً أوقح من هذا الصدق؟
لن يبقى علويٌّ واحد في مناطق السنّة. لن يبقى سنّيٌّ واحد في مناطق العلويين. تريدون أن تعرفوا ما هي أحوال الرقّة؟ وأحوال دير الزور؟ ودرعا؟ وحلب؟ وحمص؟ وحماة؟ وريف دمشق...؟ اسألوا عن "المواطنين" السوريين الذين لم يبق لهم مكانٌ في هذه المناطق، لأنهم افترضوا أنهم... "مواطنون". اسألوا عن الناس العاديين الذين إما قُتِلوا وإما فرّوا في الليل البهيم. أتريدون أن تعرفوا حقائق القلق الوجودي في جبل العرب؟ وفي بلاد الاسماعيليين؟ ليس عليكم سوى أن تأخذوا الوقائع من أصحابها المباشرين. أتريدون أن تعرفوا أحوال وادي النصارى؟ اسألوا عن الكنائس، عن الأجراس، عن الأيقونات، عن معلولا، عن صيدنايا، عن محردة، والقرى المحيطة بها.
في العراق، لم يبق مسيحيٌّ واحد في سهل نينوى. مَن آثر من هؤلاء البقاء، دخل في الجزية الذليلة. لم يبق إيزيديٌّ واحد هناك. تسألون لماذا؟ لأن هذا السهل يجب أن "يتطهّر"، وأن يُعطى لمَن يجب أن يُعطى، وفق التقسيمات الطائفية المرسومة لهذا البلد. افهموا هذا جيّداً: إنه التطهير. يمكنكم أن تسمّوه التطهير الطائفي. أو الإتني. أو العرقي. أو الجغرافي. التسمية مش مهمّة. لن يبقى في السهل إلاّ "الدولة الإسلامية"، كنايةً قسرية ومجحفة عن الإسلام السنّي. مثلما لن يبقى في غيره من الأمكنة إلاّ ما يعادل هذه "الدولة" عند الشيعة. ولن يبقى في غيره من المناطق إلاّ الكرد، حيث يجب أن يكون هؤلاء.
هل ستقوم قائمة لسوريا، للعراق، خارج اللبننة؟ لا أعتقد. يجب أن تصدِّقوني هذه المرّة.
هذا هو الشرق الأوسط الجديد. ولا شرق أوسط جديداً، خارج هذه المعادلات ومثيلاتها!
بعد قليل، ستشهدون ما سيُصاب به لبنان فيروز وعاصي ومنصور، ولبنان الحلم اليائس الذي لطالما أوهمتُ القرّاء بإمكان الارتقاء إليه.
كان ينبغي لي أن أنحاز بصرامة نهائية إلى كتابات جبران وفؤاد سليمان وأنسي الحاج عن لبنان. كم كنتُ في أعماقي "أتمنّى"، ولا أزال، أن يكون هؤلاء الثلاثة مخطئين. ليتهم كانوا مخطئين!
قديماً، استُخدِم تعبير "البلقنة"، للدلالة على "الغايات" المضمرة للحروب التي اندلعت في منطقة البلقان. لم يكن ذلك التعبير خاطئاً، بدليل النتائج التي ترتّبت على الحروب هناك. للتثبّت، ليس عليكم سوى أن تقارنوا بين حاضر دول البلقان وماضيها.
أقول "اللبننة"، أو "البلقنة"، وأنا أقصد "التهويد". وهو جوهر الحقيقة في ما يجري في سوريا والعراق.
العالم (بل نحن!) "يهوّد" المنطقة العربية، لتطمئنّ إسرائيل، ويستتبّ روعها. صدِّقوني: هذا هو الصدق العاري من كلّ غيم.
لن تقوم قائمة لإسرائيل إلاّ بـ"التهويد" المتحققة فصوله ومشاهده أمامكم، فصلاً فصلاً ومشهداً مشهداً، في هذا الشرق الأدنى.
صدِّقوني هذه المرّة. هذه المرّة فقط.
صحيح أني لا أستطيع التوقف عن كتابة الأمل. لكنْ صدِّقوني. فكلّ ما أكتبه عن الأمل كاذب كاذب كاذب. أعترف أنّي كاذب.


* * *


أنا كاذب. أنا كاذب.
في الأدب أنا كاذب. أنظري إلى دواويني في الحبّ، في الموت، في الذات، تجدي براهين كذبي بيضاء بيضاء بيضاء أكثر من الثلج. انظري في عينيَّ، في مشاعر يديَّ، في نبضات قلبي، وفي حواسي جميعها.
أكذب مثلما أنزف الحبر، ومثلما أُحبّكِ.
من فرط أوهام القلب وأكاذيب الأدب، لم يعد عندي كلامٌ أسكن فيه، ولا مكانٌ أذهب إليه.
هذه المرّة، صدِّقيني، لا بيتَ لي. فاجعلي لي عندكِ مكاناً أذهب إليه!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم