الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

لا يمكن "داعش" هدم الحضارة الإسلامية السمحاء

الخوري اسكندر الهاشم
A+ A-

ما قام به تنظيم "داعش" من طرد للمسيحيين وسلب ممتلكاتهم، يضع المسلمين أمام تحد جديد يواجهون به العالم بأسره وهذه هي لحظتهم المؤاتية للتدليل على أن دينهم يستطيع استيعاب التنوع والتعدّد وهذا واضح في محطات تاريخهم الطويل وفي كتابات الكثرة الساحقة من فقهائهم ومفكريهم.
نحن لا نتكلم على القلة التي لجأت الى التكفير والقتل، نحن نريد نبش تراث انساني طويل ساهم المسلمون فيه واكدوا ان دينهم يستطيع مواكبة الحضارة ويشكل اثراء لها جنباً الى جنب مع الآخرين. إن الحضارة التي بناها الاسلام تؤكد مقدرة هذا الدين على استيعاب المتغيرات ومواكبة الاحداث ووضع أسس مكينة للفكر السياسي والاخلاقي والاقتصادي، وهذا أمر جلي وواضح لا يستطيع العالم انكاره، فعلى امتداد المساحة الجغرافية التي وضع الاسلام يده عليها، نمت مدن وازدهر عمرانها وتجارتها وشكلت واحات فكرية نهل الكثيرون منها وفي طليعتهم الغرب. من ينسى فضل بغداد والموصل ودمشق والقاهرة والقيروان وسائر المدائن الاسلامية التي اعادت ترتيب المناهج الفكرية وارساء قواعد سلوك انسانية تجلت في المحافظة على اقلياتها وأبقت فيها التعددية الفكرية والفلسفية والدينية، مشيرة بوضوح الى تسامح الاسلام وقبوله الآخر ووضع أسس مقبولة للعدالة.


الواجب الأخلاقي



إن تنظيماً على غرار "داعش" يثير البلبلة ويضع الناس أمام تساؤلات مشروعة، بل يضع المسلمين اليوم أمام واجبهم الاخلاقي والديني في تحديد مسارهم وسيرة سلفهم الصالح والتأكيد على منهج الاسلام الداعي الى العيش بسلام واحتضان الضعيف ونصرة المظلوم والنهي عن المنكر، والفكر الاسلامي يعج ويضج بالكثير من المفكرين الذين يواجهون اي شطط يأخذ الاسلام الى غير موقعه ويناقضون بفكرهم كل ميل الى التقوقع ويضعون أسساً واضحة وجلية لعلاقة الاسلام بالآخرين والضغط في اتجاه تراجع بعض الحركات الاسلامية عن الخلط بين السياسي والديني، بل استعمال الدين أداة طيعة للسياسة، وهذا يجعل الأمر أكثر تعقيداً ويضع الاسلام عند خط المواجهة الدائمة مع نفسه ومع الآخرين، ويسبب شروخاً قاتلة في جسد الانسانية الغارقة أصلاً في أزماتها الوجودية، فمع القرضاوي الذي يدعو المسلمين الى الحوار مع أهل الكتاب ويسمح بأكل ذبائحهم ويبيح بالتالي الزواج من نسائهم من أجل اختلاط المسلمين وغير المسلمين، الى محمد العوا الذي يرى ان الاسلام متهم ظلماً بمعارضة المجتمعات التعددية وهو يشدد على الضرورة المطلقة للتعددية والديموقراطية، كما أنه يشدد على تنظيم مؤسسات المجتمع المدنية كي تنمو وتتطور بحرية، ويعتبر العوا ان التسامح هو نزعة انسانية طبيعية وحق غير قابل للتمويه، لأن القرآن يسمح حتى بالاختلاف في المعتقد والهوية والانتماء. ويشدد حسن الترابي على ان الحرية الشاملة هي حق أساسي ومبدأ تكويني في حياة الناس واذا انتقلنا الى زعيم حركة النهضة التونسية راشد غنوشي فأننا نرى التسامح الذي يجعل اليهود والمسيحيين الذين يعيشون في المجتمعات الاسلامية جزءاً من الجماعة نفسها ويتمتعون بحقوق وواجبات سياسية ودينية متماثلة.
إن كوكبة كبيرة من الفقهاء والعلماء والمفكرين الاسلاميين يشددون على قدرة الاسلام على احتضان التجربة البشرية عبر معايير ومقاييس تشكل دستوراً انسانياً وتجعل الحياة المشتركة عبر تعدديتها وتنوعها أمراً ممكناً، بل واجب اخلاقي وديني، وهم بذلك يستندون الى النص القرآني، والى سيرة السلف الصالح واضعين النصوص الخلافية في اطارها الموضوعي ومفسرين إياها وفق منطق أشمل يتجاوز التفاصيل ليأخذ منحاه وفق شمولية الدعوة وأبعادها الكونية.
إن نصارى الموصل وبغداد وحلب ودمشق وسواها هم أقلية لا تشكل خطراً على الاسلام وثقافته وحضارته، هم من سلالة المسيح الذي حمل وجع البشرية واشترى عداواتها وقدم ذاته كفارة عن ابناء آدم المتخاصمين والمتصارعين حتى الموت. يجب أن يكون لهم في قلب كل مسلم مكانة خاصة وموقع مميز، ناهيك انهم من العرب الاقحاح وقد أنزل القرآن لكل العرب والعجم، لكنه جعل من العرب خير أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فأي مجد تناله "داعش" في تعاملها اللانساني مع الجماعة المسيحية التي أمّنت لدين الاسلام واعتبرته من ابناء العمومة والخؤولة، واعتبرت نفسها من نسيج العرب جسداً ودماً وعادات. إن تشويه الاسلام وجعله ديناً لا يستطيع العيش مع الآخرين وتقديم السيف على الحكمة والأناة والرحمة لهو أمر خطير يستدعي من العرب والمسلمين وقفة مدوية تعيد الأمور الى طريقها السوي وتجعل الاسلام منارة وطريقاً الى كرامة الانسانية بكل تنوعاتها واطيافها ومساهماً فعالاً في السلام العالمي.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم