السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

أمّ هنري

عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

تعرّفتُ في حياتي إلى بطولات حقيقية، وإلى أبطال حقيقيين؛ لكن من النوع الذي لا يحتاج برهانه إلى قوة العضل، بل إلى قوة الروح، وصلابة الإرادة، ورغبة المعرفة، وحبّ التعلّم، والأنفة الخفرة. وهذه، مجموعٌ بعضها إلى بعض، تصنع معجزات.
من هذه البطولات، ومن هؤلاء الأبطال، تحضرني في هذه الساعات الموجعة من حياتي وحياة عائلتي، بطولة سيدة، هي أمّ هنري؛ اجترحتْ في حياتها معجزات كثيرة، ليس أقلّها أنها ربّت، إلى جانب زوجها الراحل الشيخ داود، وهو الآخر كان بطلاً، ثمانية أولاد، أربع إناث وأربعة ذكور. وقد فعلا ذلك معاً؛ ليل نهار، في الحرّ والقرّ، في الشظف وبحبوحة الروح، في الأمان وفي التجربة، في لذة الألم وفي خبرة الشوك، في الفرح النيّر وفي الاعتزاز؛ وهما لا يملكان من هذه الدنيا إلاّ كرامتها، وسقفاً من صنع السماء.
أحيّي بطولة هذه السيدة، وهي كانت في امتحان النزع الأخير، القريب من أحوال الجلجلة. وكم يعزّي أن هذه البطولة، لم تكن يوماً بطولة مالٍ، ولا جاه، ولا سلطة، ولا مجد. بل بطولة التضحية. وهل ثمة أسمى من التضحية بكل فرح شخصي، وبكل سعادة، وبكل رفاه، من أجل شيء واحد أحد: تربية الأولاد تربيةً صالحة!
طوال خبرتي الوجودية، لم أعرف مثالاً من شأنه أن يستشعر بطولةً، توازي هذه البطولة؛ البطولة التي تجترح نوعاً نادراً وصعباً ومزعجاً من الحياة. وإذا من تشبيه، فإنها تربية الحياة التي تشبه الذهب الخالص من كلّ غش؛ تربية الحياة التي تصنع الحدائق، وتفرش البيوت، وتفتح المكتبات، وتزيّن النفوس، وتصقل العقول، وتشقّ دروب الخيال والحلم والحبّ والأمل.
على الصراط العائلي، الوجداني، الروحي، العقلي، التربوي، الثقافي، الوطني، الذي لا يغشّ، ولا ينحني، ولا يوارب، ولا يجامل، ولا يمالئ. بل فقط يشهد للحق.
من لا شيء. أعني بالخبز والزيتون، وبما يوازيهما في معايير الأصالة وكبر النفس والإباء والصلابة والصبر والصمت والرأس العالي والودّ والحبّ والصداقة والوفاء؛ نشّأت أمّ هنري الثمانية الأولاد، تحت جناحَي الشيخ داود، غير آبهين بشدّة، ولا بعوز، ولا أيضاً بزمهرير؛ متحدرين من سلالات النبيلات والنبلاء، المكتفين بصلابة الكبرياء وتأصّل القيم والكرم الروحي، المرفّهين المتنعمين، المالكين الأرض، وما فيها، وما عليها.
ببعضٍ مما تيسّر من علوم ذلك الزمان، مجبولاً بالكثير من الذكاء والدأب والحدب والكفاح والإيمان والتوق، صنعتْ، صحبة رفيق دربها، مدرسةً في بطولة الحياة.
لكِ، يا أمّ هنري، نيابةً عن الثمانية، والأهل والأصدقاء، هذا القليل من الوفاء.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم