الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الأستاذ نزيه

عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

لم يترك نزيه لحد خاطر، الذي رحل أول من أمس عن 84 عاماً (1930 - 2014)، كتباً منشورة، ولا مراجع، لكنه ترك إرثاً كبيراً من المقالات والمقابلات التلفزيونية والإذاعية، قد تشكّل تأريخاً، وإن جزئياً، لبيروت الثقافية في زمنها الذهبي، أدباً ومسرحاً وفنوناً تشكيلية.


بين النقاد العارفين، يمكن اعتباره في عداد الذين كوّنوا الصفّ الأول، في ستينات القرن الماضي وسبعيناته. فقد كان شخصاً عارفاً بأسرار الخشبة وبالسطح التشكيلي وفضاءاته على السواء، مثلما كان قارئاً خبيراً وملماً بالثقافة الأجنبية، من خلال عكوفه المبكر على الفرنسية، أستاذاً مكيناً للأدب والمسرح، الأمر الذي مكّنه من أن يلمّ باتجاهات الحداثة في ميادينها الشتى.
لم تكن لغته العربية مكينة، لكنه كان أستاذاً يرى الكلام، تحته، ووراءه؛ الوجوه، تغضناتها وقسماتها، إلى حركات الأيدي والانفعالات المرئية وغير المرئية؛ مثلما كان يعرف دلالات الضوء والعتمة والكائنات التي تجد متسعاً لها في الفضاء وعلى الخشبة. وكم قرأ المسرحيات اللبنانية في الزمن البهيّ، مرافقاً صعود الحداثة الدرامية، مخرجين وممثلين وكتّاباً مسرحيين ومترجمي نصوص؛ وكم لاحق المعارض، رسماً ونحتاً وتجهيزاً، على مدى الأجيال المتلاحقة، منذ الستينات في "الملحق" (3/3/1964 البداية على الأرجح) حتى مقاله الأخير في "النهار" في 31/1/2009، لينصرف إلى عزلته الهادئة في رأس بيروت، بين البيت والمقهى.
وكم علّم، ووجّه، وأثنى، وانتقد! وكم، أيضاً، أثارت مقالاته الجدال، قبولاً وامتعاضاً. والحقّ أنه مارس مهنته النقدية، في كل مظاهرها وخفاياها، في صعودها وارتجاجاتها والتباساتها: شاهداً ومتدخلاً؛ حيادياً ومتورطاً؛ رائياً موضوعياً وديموقراطياً في أحيان، ومنحازاً على غير موضوعية في أحيان؛ على رأي البعض، تاركاً من يتظلّم من بعض مقالاته وآرائه في الأدب والمسرح والتشكيل، وتاركاً هناك، من غير وجه حق، مَن يتلمّظ مسروراً ومنتشياً ومكتفياً.
لكنه كان في أحواله الكتابية كلها، شاهداً متمرساً وحاذقاً، مثلما كان في حضوره البيروتي أحد عناوين المكان الحديث، من خلال احتفائه بالمدينة، كفضاء خلاّق، حرّ، إنسانوي، ثقافوي، رحب، ومتنوع، منشغل بأسئلة العصر وهواجسه.
في غياب رجلٍ في قامة نزيه خاطر، نتذكر الناقد الحديث المثقف، والشاهد المتنوع المعرفة، وكم نفتقده؛ حتى لكأن غيابه الخافت الهادئ، أشبه ما يكون بالخفوت الذي يعتري المكان الثقافي العام، بعد هجوم جحافل العنف والأمية والقتل والإرهاب والمصادرة، واستيلائها على الحيّز، وتضييقها على الحياة تضييقاً مرّاً وقاتلاً؛ من آثاره الضمور الذي يعتري وجه المدينة وكينونتها المدينية الخلاّقة.
أستاذ نزيه، مكانكَ محفوظ!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم