نبيذ لبناني بلمسة فرنسية في أعلى نقطة مزروعة في لبنان

فرح نصور

على تلال جبل الأرز، حيث يلامس الكرم الغيوم وتتنفّس الأرض برودة الأرز، بدأت الحكاية. هناك، على ارتفاع يناهز الـ 2000 متر، يزرع نديم الخوري كرومه كما لو أنّه يرسم لوحة من ألوان الطبيعة. 

من هنا، ولد سحر Muse du Liban، نبيذ يحمل في كل قطرة روح الأرض، وإلهاماً يذكّرنا بأن النبيذ ليس مجرد مشروب… بل قصّة تُروى وتُعاش.

الفينيقيون أول الشعوب التي أنتجت النبيذ وتاجرت به في منطقه الشرق الأوسط، ولربما كانت هويته المتجذرة هذه هي التي أعطته هذه الأهمية. فالنبيذ في لبنان ليس مجرّد مشروب، هو جزء من هويتنا ومن طقوس عائلاتنا، في الاحتفالات والسهرات. وقطف عنبه مناسبة تجتمع عليها العائلات والقرى والدول. من آلاف السنين، الكرمة رافقت أهل منطقتنا وصارت رمزاً للخصب والحياة، والنبيذ صار مرآة تعكس علاقتنا بالأرض والزمن. لذلك، كل زجاجة نبيذ هي امتداد لذاكرة جماعية متأصلة فينا. 

لذلك، عشق المهندس الزراعي نديم الخوري، النبيذ منذ أن وعى على هذه الدنيا. في عام 2014 زرع العنب للأكل في ممارسة تتناغم مع تخصّصه، لينتقل بعدها إلى زراعة عنب النبيذ تلبية لشغفه.

كروم على علو 2000 متر عن سطح البحر

أشهر مناطق زراعة كروم عنب النبيذ في لبنان هي سهول البقاع والبقاع الغربي. لكن Muse مشت عكس التيار واختارت أراضي مختلفة لنبيذ مختلف. 

في أقصى البقاع الشمالي، نشرت Muse شتولها، عند أعلى نقطة مزروعة في لبنان وفي شمال الكرة الأرضية، على ارتفاع يصل إلى 2200 متر عن سطح البحر، وهو المستوى الأعلى بين كرومها. 

المنطقة جردية ذات تربة صخرية، حجرية، كلسية. بمعنى آخر، أرض غير خصبة، ما يؤدي إلى تكلفة باهظة لاستصلاحها، تنعكس على ارتفاع تكلفة إنتاج Muse. استثمر نديم في أراضي المزارعين، من استصلاحها والإشراف على زراعتها، و"استصلاح الأراضي كان عملية شاقة للحصول على النتيجة التي وصلنا إليها"، يقول نديم لـ"النهار". فزراعة عنب النبيذ على هذا الارتفاع تعني الانتظار أقلّه خمس سنوات لإنتاج أول زجاجة نبيذ. وكل ما تخلّل هذه السنوات الخمس لا يتعدى التجارب.

نبيذ مميّز بمناخ قاسٍ

المناخ هنا قاسٍ، والمنطقة تفتقد إلى النمو الخضري الكافي. وقت نمو الشتلة قصير وهذا في ذاته من أكبر التحديات. الشمس حارقة نهاراً، والبرد قارس ليلاً... في الصيف. بيئة مناخية لا تساعد على نمو الشتول بسهولة، بل أحياناً تعاكسها وتنتقص من عناقيدها وتضعّفها، وقد يصل وزن منتج الشتلة الواحدة بسبب الارتفاع والمناخ إلى حوالى نصف كيلوغرام في أحسن الأحوال، مقارنة  بالسهول، حيث يصل المنتج إلى 3 كيلوغرامات للشتلة. كلها عوامل تؤثر على كمية الإنتاج التي تختلف بين سنة وأخرى. مع ذلك تنمو شتول Muse بعناية فائقة عضوياً، وتنتجع نبيذاً فريداً.

أرقام

400 ألف شتلة عنب بمعدل 300 شتلة لكل 1000 متر مربع على مساحة كروم تُقدَّر بـ 1300000 متر مربع.

80% من حجم المبيع يُصدر إلى الخارج.

 20% من حجم المبيع يُوزَّع داخل لبنان.

معدل الإنتاج السنوي يصل إلى 150 ألف زجاجة نبيذ، منها 100000 زجاجة نبيذ أحمر و 50000 زجاجة نبيذ موزعة على النوعين الأبيض والزهري.

 لمسة فرنسية في نبيذ لبناني

على عكس ما كان يجري قديماً في إنتاج النبيذ، عندما كان أجدادنا الفينيقيون ينتجون النبيذ من العنب المتوافر، الأمر تغيّر حديثاً مع تطوّر العلم والتخصصات المرتبطة بعالم النبيذ، وأصبح لا بد من اختيار شخصية النبيذ التي يريدها صانع النبيذ قبل أي شيء. والمرحلة التي تليها، أي زراعة الكرمة، تعتمد على هذا الاختيار. لذا، استعان نديم بميشال رولان، وهو خبير نبيذ فرنسي، وواحد من أهم الخبراء في عالم النبيذ عالمياً، لاختيار نوع النبيذ الذي ينوي إنتاجه، والشتلة المناسبة التي له على أمل أن تنمو في الأرض التي اختارها. 

يحب نديم أن يرى الناس Muse على أنه نبيذ جديد منتَج بخبرة فرنسية، فكل ما يدور حول هذا النبيذ هو فرنسي عدا العنب، لبناني. بدءاً من الشتول الفرنسية المؤصَّلة، إلى الزجاجة، حتى أنّ براميل الخشب حيث يُخمَّر النبيذ، هي براميل فرنسية جديدة الصنع غير مُستعمَلة. كذلك، ختم الزجاجة والفلينة التي تضغطها، وغطائها، كلّها مواد فرنسية.

Muse... للاسم والزجاجة قصص

زجاجة Muse، لا تشبه زجاجات النبيذ الكلاسيكية. تحظى بهيئة راقية وعصرية تجذب اللبنانيين والأجانب، ولا سيما منهم الأعمار الشابة. تتحدث الكثير عمّا بداخلها، وفي المقام الأول اسمها. فاسم Muse مستوحى من اسم والدة نديم، "كاليوبي"، إحدى آلهات الإلهام في الأساطير اليونانية. بالتالي، لا بدّ  من أن تجد الوحي في نبيذ Muse.

الزجاجة تبقي نوعاً من الغموض لمَن يلتقيها للمرة الأولى. يتكهّن ما اسم العلامة المحفورة على الزجاجة، من ملصَق يحمل الاسم كالزجاجات الأخرى. هذا الغموض الساحر، لعلّه آت ٍ من السحر الفرنسي الذي دخل في إنتاج نبيذ Muse، "فنبيذنا هو حالة ذهنية" أو a state of mind، بحسب ما يصفه نديم.

قطاف العنب... اللحظة المنتظرة

تبدأ عملية فحص السكر على عينات من كل كرم، يومياً في فترة القطاف. عندما يصبح لون العنب الأحمر داكناً، وفي مستوى حلاوة معيّن يصبح جاهزاً للقطاف، ومع شقوق الفجر، تبدأ رحلة القطاف بحماسة وفرح يغمران نديم.

كل كرم من كروم Muse المنتشرة في أعالي البقاع الشمالي، ينتج نوعاً مختلفاً من النبيذ، يختلف مذاقه عن الآخر حتى ضمن الفئة الواحدة من النبيذ كالنبيذ الأحمر. لذا، يختلف توقيت قطاف كل كرم. لكن فترة قطاف الموسم كله تمتد من 10 آب/أغسطس إلى 10 تشرين الأول/أكتوبر. 

بعد القطاف، يتجه العنب الى العصر ومن ثم إلى التخمير في براميل خشبية ومن ثم إلى التعبئة في الزجاجات. بعدها، جزء يذهب لتعتيقه، وآخر قد يُشرب مباشرة. ويتم تخزين النبيذ في برادات على حرارة 15 درجة مئوية ثابتة لا تتغيّر تحت مراقبة متواصلة.

الحرفية لدى Muse تحدثنا عن الشغف والنوعية والكميات المحدودة، إذ يُنتَج النبيذ فقط بحجم محصول كروم العنب، ولم يفكر نديم يوماً في شراء محاصيل إضافية لإنتاج مزيد من النبيذ، فمشروعه لم يكن يوماً تجارياً، على رغم  أنّ نبيذ Muse وصل إلى الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. فالعمل بهذا المجهود الكبير والتحديات الأكبر، يتطلّب شغفاً بالزراعة والنبيذ وصبراً في آن واحد.