"بلاك ميرور" مرآة ذكية وحقيقية تعكس وحشية التكنولوجيا والبشر
حفلت الأعمال الفنية القديمة على الشاشتين الذهبية والفضية منذ القرن الماضي بما ظنّه الجمهور حين عرضها مجرد "بهرجات" تكنولوجية من باب الخيال العلمي والإبهار، مثل مشاهد شخصيات تتحدث عبر ساعة اليد، أو باتصال مصوّر، وسيارات ذاتية القيادة... كل ذلك تحقق فعلاً في الواقع. على هذا النحو، وصلت سلسلة Black Mirror (المرآة السوداء) إلى موسمها السابع، لكنها تميزت ببحث أنطولوجي حول علاقة البشر باجتياح تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي حياتهم، وتأثيرها الخطير على نمط عيشهم بأدق التفاصيل، كتحذير بالغ السواد إلى درجة تثير القلق حقاً، مع وجود عمق إنساني استثنائي وساخر.
وحتى لا تبدو الكلمات ضرباً من المبالغة، أو حديثاً متكرراً عن أضرار التكنولوجيا بعلاقة الناس مع أنفسهم ومع الآخرين، يمكن كمثال الحديث عن الحلقة الأولى بعنوان Common People (عامة الناس) من الموسم الأخير، وبأحداث تنطلق من ثنائي عادي، "مايك" (كريس أوداود) عامل في مصنع و"أماندا" (رشيدة جونز) معلمة في مدرسة يحلمان بتكليل زواجهما بطفل. تُصاب الزوجة بمرض عضال، فيكون الحل الوحيد زرع رقاقة في رأسها، تعمل كخطوط الهاتف باشتراك شهري يُدفع إلى الشركة المصنعة، مع تغطية جغرافية محدودة جداً. يلجأ الزوج إلى العمل بنوبات إضافية من أجل تسديد النفقة المستجدة، لتبدأ حياتهما بالخلو تدريجياً من حميميتها و"إنسانيتها"، قبل أن تبدأ الرقاقة ببثّ إعلانات صوتية على لسان المرأة ما يوقعها في مشكلات مع طلابها ويعكّر حياتها. هنا يضطر الزوجان إلى ترقية الاشتراك بثمن أكثر من مضاعف للحصول على "باقة خالية من الدعايات الإجبارية" وعلى تغطية أوسع للشبكة، من أجل التمتع برحلة تقليدية سنوية في ذكرى زواجهما.
ولكن المشكلات "التقنية" لم تنته هنا، فالباقة الجديدة تدفع الزوجة إلى النوم أكثر، من أجل توفير الطاقة في بطاقتها والمهارات في عقلها، للاستهلاك من قبل "زبائن" بقدرة شرائية أكبر مكّنتهم من ابتياع باقة أكثر رفاهيةً! مرّة أخرى يضطر "مايك" إلى مصدر إضافي للدخل، فيبدأ بتقديم عروض مُذلّة له في أحد التطبيقات. رحلة كئيبة (لن نذكر نهايتها) بمثابة استكشاف آسر ومثير لتسليع الحياة والموت بشكل جشع من خلال التكنولوجيا "الخبيثة" والتي تتحول من وسيلة إلى غاية تستنزف الأرواح من دون استطاعة للحاق بها، رغم كل اللهاث خلفها، في حلقة تُثير مشاعر قوية، ولا سيما الغضب والإحباط، إذ يتابع المشاهد كفاح الزوجين ضد نظام مُصمم لاستغلال ضعفهما، مما يحفز ويطرح أسئلة جادة حول الأخلاقيات وربما القوانين الواجب طرحها للوقاية من "الغول" المقبل.

بدأ عرض المسلسل ضمن هذا النمط من الأفكار، من ابتكار تشارلي بروكر، في عام 2011 على القناة "البريطانية الرابعة"، قبل أن ينتقل إلى منصة "نتفليكس"، حيث وصل إلى 32 حلقة منفصلة بالشكل متصلة بالموضوع العام، كلٌ منها بقصة وأبطال مختلفين، بالإضافة إلى فيلم Bandersnatch التفاعلي، والذي يتيح اختيار المُشاهد خطوطه الخاصة. وقد حقق تصنيفات مرتفعة جداً، إذ نال 4.4 من أصل 5 بالتقويمات على محرّك البحث "غوغل"، و8.7 من 10 على موقع IMBD، رغم أن معظم الحلقات تخلص إلى نهاية عنيفة ومعقّدة، وإن انتهى بعضها بلمسة لطيفة.
مع تزايد سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا على العالم، يبدو مسلسل "بلاك ميرور" أكثر أهمية من أيّ وقت مضى، ومستحقاً للعب دور "مرآة سوداء" تعكس مخاوف البشر وتجعلهم يفكرون في العواقب المحتملة لاستخدام للتكنولوجيا بإدمان حقيقي، وتُبدع في تصوير مدى تدهور كلّ شيء، ومدى تضرر النفس الإنسانية، رغم جنونية الأفكار، كأن تستخدم "نتفليكس" حياة مستخدميها بعد التجسس عليها، لصناعة أعمال ترصد يومياتهم بأسرارها.
نبض