لغتنا الأم… ما بين التشويه والتحديث، إلى أين؟

ثقافة 21-02-2025 | 09:25

لغتنا الأم… ما بين التشويه والتحديث، إلى أين؟

يفتقر 40 في المئة من سكان العالم إلى سبل الحصول على التعليم بألسنتهم الأم، ويتجاوز ذلك الرقم 90 في المئة في بعض المناطق.
لغتنا الأم… ما بين التشويه والتحديث، إلى أين؟
اللغة الأم
Smaller Bigger

يحتفل العالم في "اليوم الدولي للغة الأم" في 21 شباط/فبراير من كل سنة، لتعزيز التنوع اللغوي والثقافي وتعدد الألسن، والتأكيد على دور الألسن في تعزيز الإدماج.

 

وبحسب أرقام الأمم المتحدة، يفتقر 40 في المئة من سكان العالم إلى سبل الحصول على التعليم بألسنتهم الأم، ويتجاوز ذلك الرقم 90 في المئة في بعض المناطق. والتعليم متعدد الألسن لا يعزز المجتمعات الشاملة فحسب، بل يساعد كذلك في صون الألسن الثانوية في المجتمع من مثل ألسن الأقليات والسكان الأصليين. 

 

وبحسب الأمم المتحدة، يُتوقع اختفاء لسان من الألسن في كل أسبوعين، ما يعني اختفاء موروثها الثقافي والفكري معها كذلك، بسبب العولمة الني تهدد اختفاء أو اضمحلال الألسن، إذ يتعرض ما لا يقل عن 45 في المئة من الألسن المحكية حالياً في العالم، ويبلغ عددها 7000 لسان، لمخاطر الاندثار. أما الألسن التي تعطى لها بالفعل أهمية في نظام التعليم والمجال العام، فلا يزيد عددها عن بضع مئات، ويقل المُستخدم منها في العالم الرقمي عن مائة لسان.

 

في عالمنا العربي، لغتنا الأم هي العربية بطبيعة الحال.  لكن مع العولمة والتكنولوجيا، تتشوه العربية وتتغير وتضمحل شيئاً فشيئاً، لا سيما بين الجيل الصاعد، حيث لم تعد العربية تندمج مع لغات أخرى في حديث واحد فحسب، إنّما أصبحت كلمات عربية تندمج داخل كلمات أجنبية، أي عربنة الكلمات الأجنبية وتضريفها مثل كلمة "كنسِل" بفعل الأمر أي cancel it، أو إدراج الكلمات الأجنبية في التصريف العربي مثل قول "تيشرتَك" بدلاً من التيشرت الخاص بك (your t-shirt). 

 


قد تكون هذه الكلمات أسرع ومختصرة أكثر وأسلس في الحوار والحديث مع الجيل الشاب والصغير. لكن لا بد من السؤال: هل من تأثير سلبي لهذه الكلمات على لغتنا الأم، وعلى حفاظنا عليها كثقافة وموروث وتقاليد؟ وهل يؤثر اعتماد هذا النوع من الكلمات على تعلّم الشخص لغات أخرى بشكل سليم؟

 

ترى الدكتورة هيلدا حسن نرش، المتخصصة في القيادة التربوية، لـ"النهار" أنّ العربية تواجه الكثير من التحديات التي تسعى إلى تدميرها في عصر صدام الحضارات، لا سيما مَن يسعى بجهله لواقع لغته الأم، إلى المساهمة في تدمير اللغة العربية الفصحى وإحلال العامية بدلاً منها، ما يجعل من لغتنا العربية عاجزة عن اللحاق بمركب التغيير التكنولوجي والتطور الفكري. كذلك يفعل مَن يدعو لإحلال العامية بدلاً من الفصحى، والأحرف اللاتينية بدلاً من الأحرف العربية الأصلية، بهدف إضعاف اللغة العربية وضرب كيان الوطن العربي ومحاربته من خلال لغته، وبالتالي الحد من تطوره الفكري والثقافي وتحجيم دوره عالمياً.

وتضيف نرش: "من التحديات التي تهدد سلامة لغتنا العربية الأم، الازدواجية اللغوية من جهة، واللغة الهجينة من جهة أخرى. فالازدواجية اللغوية تتمثل بوجود مستويين لاستعمال اللغة العربية في المجتمع الواحد، أي الفصيحة التي تتعلق بالأمور الرسمية، الثقافية والأدبية، والعامية المستخدَمة شفهياً في الحياة اليومية". وتشرح أن العربية الأصيلة (الفصحى) هي تلك التي يتعلمها الإنسان بطريقة سليمة في المدارس من خلال مناهج تربوية معتمدة لكل دولة بما يتوافق مع سياساتها التربوية وتعبر حتماً عن ثقافة المجتمع بطرائق أدبية محض. أمّا اللغة الدنيا (العامية) فهي المصطلحات والتعابير التي يكتسبها المرء منذ ولادته من خلال تواصله مع أسرته ومحيطه أي بيئته الداخلية والخارجية.

 

ومع ظهور العولمة التي سهّلت للغات الأجنبية غزو الوطن العربي وانتهاك لغته الأم، برأي نرش، ساعدت التكنولوجيا والتحولات الرقمية التي يعتمد معجم مصطلحاتها على اللغة الأجنبية وخاصة الإنجليزية، إلى تغيير نمطي في اللهجة العربية العامية، حيث بات كل عربي بحاجة إلى التكنولوجيا سواء في حياته اليومية أو ضرورات العمل، ما ساهم في جعل اللغة العربية العامية أرضاً خصبة لإدخال مصطلحات جديدة في المجتمع العربي، غالباً ما تسمى بـ "العربيزي"، مثال إلقاء التحية (هاي)، والموافقة (أوكي، ديل)، والرسائل (مساج)، وأهمها (الإنترنت) الذي حتى الآن لا بديل عن هذا المصطلح في الاستخدام اليومي. وهنا، برزت الفجوة الحاصلة ما بين اللغة العامية والفصحى والهجينة.

وتؤكد نرش أنّ هناك تأثيرات سلبية للمصطلحات الأجنبية الدخيلة التي تهدد كيان اللغة العربية، "ما يوجب الإسراع في الملاحقة اللغوية للتعديلات اللازمة في معجم اللغة الأم تزامناً مع التحولات التكنولوجية وعصر الرقمنة. وللحفاظ على الإرث العربي وثقافته وعاداته وتقاليده، ثمة دور أساسي للجهات الرسمية والإعلام والقطاع التربوي في التوعية اللغوية، بدءاً من الأسرة مروراً بالتواصل الاجتماعي وصولاً إلى التعليم الرسمي للغة الأولى (العربية) تساوياً مع اللغة الثانية (الأجنبية) المعتمدة في النظام التعليمي المدرسي". 

 

وبنظر نرش، اللغة الهجينة يجب ألا تؤثر على اكتساب لغات أجنبية أخرى، بل تنحسر سلبياتها على اللغة الأم، لأن الأطفال يكتسبون اللغة الأجنبية في المدارس بمناهج تربوية مختصة تجعل المتعلّم متمكناً منها وقادراً على التواصل بها بمهارة. 

 

التكنولوجيا بالعربية!


فكرة دمج عدة كلمات في جملة واحدة أو داخل كلمة واحدة لا شك في أنه نتيجة وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما الكلمات التي تروَّج على أنها عصرية و "كول" وأنّ هذا النوع من الكلمات منتشر بين جيل المراهقة، كما تقول الدكتورة بيا طعمة خلف، رئيسة قسم علم النفس والتربية في الجامعة اللبنانية الأميركية لـ"النهار"، مؤكدة أنّ هذا الجيل لا يعتبر أنّ العربية جزء من هويته بل يراها غير مهمة لمستقبله، لا بل على العكس يعتبر أنّ ما هو مهم وهو كيف يمكنه دمج اللغة العصرية أو لغتين مع بعضهما في كلامه. وبحسب ما ينقله هذا الجيل، يجعله ذلك ينفتح على العالم الخارجي ويجعل التواصل مع الجيل الحديث أسلس وأسرع ومثمراً أكثر من اللغة العربية، وبالنسبة إليه، ليس من الضروري أن يتكلم العربية أو يتقنها، فهو سيتوجّه إمّا بعمله أونلاين أو بالسفر إلى الخارج. لذلك، يسعون إلى إدخال كلمات غير موجودة في اللغة العربية وابتكار كلمات حديثة.

 

وتشدد خلف على أنّ بالنسبة إلينا كجيل عاصر اللغة العربية بأصالتها، نرى الهوية بشكل مختلف عمّا يراه الجيل الحديث. وتضيف: "توجّه الشباب في ما يتعلق باللغة العربية يؤثر أيضاً في علاقتهم بأهاليهم، فهناك أهالي لا يفهمون لغة الجيل الجديد ويضغطون بشكل إضافي على ولدهم ليتعلم اللغة العربية كما يجب، ويحاولون شرح أهمية اللغة العربية كثقافة وتراث وقيمة وشعر غير موجود في أي لغة أخرى، وأننا بعدم تعلّمنا العربية نخسر جزءاً من ثقافتنا، لكن الأولاد لا يريدون فهم هذا الأمر".

 

برأي خلف، مهم مراعاة مقاربة اللغة العربية لدى الاولاد، ومراعاة أن تتضمّن المناهج التعليمية أشياء ترغّب الجيل الحديث باللغة العربية. ومعلومٌ أن أولاد هذا الجيل لا يرغبون بالمطالعة. تقول: "كتربويين، ننصح الأهالي أن يلاقوا أولادهم في منتصف الطريق. لذلك، يمكن ترغيبهم باللغة العربية بمواد يحبّونها بالعربية مثل الأغاني أو بعض المقاطع الطريفة أو أفلام الكرتون أو ألعاب الفيديو التي يفضلونها. وفي حال أردنا تعليم الولد لغة أخرى غير العربية، ننصح أحد الوالدين أن يواظب على التحدث دائماً في اللغة العربية مع ولده، وأن يتوكّل الطرف الآخر التحدث باللغة الأخرى مع الولد".

 

رغم التشويه...لا بد من التحديث

من جهتها، تقول الدكتورة سوسان جرجس، المتخصصة في علم الأنثروبولوجيا والأستاذة المساعدة في قسم العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، لـ"النهار": "عندما اجتاحت التكنولوجيا حياتنا، استحوذت على مكان الكتاب الورقي مع غياب للعائلة، وأصبحت اللغة العربية تتلاشى".

 

ودمج لغات عديدة في كلمة واحدة هو تشويه لجميع اللغات المستخدَمة وليس للغة الأم فقط. وأصبح لدينا خليطاً مسخاً من اللغات المتداخلة ببعضها، بينما اللغة العربية ليست كلمات إنّما خزان من الرموز التي تحمل في طياتها قيمنا وموروثاتنا وثقافتنا وخصوصيتنا الثقافية. 

 

لكن، تستند جرجس إلى ما قاله الباحث هشام شرابي حول اللغة العربية: "إذا أردنا إبقاء العربية على شكلها الأساسي أي الفصحى، ستُقتل على ألسنة الناس وعلينا أن نحدّث هذه اللغة كي تراعي العصر، وأن نتمكّن من توظيفها فيه".

 

وتشرح جرجس التحديث في هذا الإطار قائلة: "إنّنا بحاجة إلى التحدّث واستعمال الصيغة الحديثة من اللغة العربية (العامية) بين الشباب، وفي يومياتنا معهم لتكون بشكل أبسط، ونكون مضطرين في بعض الأحيان لمراعاتهم عبر إدراج بعض من الكلمات غير العربية التي يستعملونها".

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 12/7/2025 2:40:00 PM
ضابط سوري سابق: "بدا الأمر كأنه معدّ مسبقاً. لكنه كان مفاجئاً لنا. كنّا نعرف أن الأمور ليست على ما يرام، لكن ليس إلى هذا الحد"...
سياسة 12/7/2025 9:18:00 AM
"يديعوت أحرونوت": منذ مؤتمر مدريد في أوائل التسعينيات، لم يتواصل الدبلوماسيون الإسرائيليون واللبنانيون مباشرةً
سياسة 12/7/2025 12:00:00 PM
الأسلحة الأميركية للجيش تشمل مركبات وأسلحة متوسطة دفاعية لا هجومية ضمن المساعدات الدورية...