في شوارع الفصل العنصري، يوم تحوّل لا مبالاة الليل إلى طائرة ورقية داكنة، طارت بعيداً في الظلام إلى حيث القمر، ترجّل شاب جنوب أفريقي ليأخذ مساراً مغايراً عن ذلك المتّبع في بلاده. وبين طيّات الكلمات والأوراق والحبر رأى انعكاس ظله، ثلاث مرات، بين الأصدقاء الموتى والأحياء الذين تمردوا على فكرة أن الأبيض يحكم والأسود يخدم.
تمرّد الشاب وسُجن، لكنّ رفيقه نلسون مانديلا ناصره، آخذاً بيده إلى ذلك الضوء الذي حمل مشعله إلى حين انطفأ قبل أيام.
رحل مناهض نظام الفصل العنصري بريتين بريتنباخ ، لتبقى كلمات الشاعر والرسّام والروائي محفورة في الوجدان، هنا في لبنان الذي زاره لإحياء أمسية قبل سنوات قليلة مضت، وهناك في فلسطين التي أبكته أحوالها، وفي مطارات العالم التي ضيّقت عليه لأنّه تجرّأ ذات يوم وهاجم آرييل شارون، ومن بعده بنيامين نتنياهو، في رسالة مطوّلة عن "جرائم الإبادة التي لا تنهي الشعوب وإنّما تكاثر بينها الانتحاريين الذين لديهم كلّ الجرأة للذهاب إلى الموت بقلوب واثقة طالما أنّ المحارق لا تزال مستعرة، والظلم ما أكثره، وثمّة من يطبّل ويهلّل إليه".
رفيق النضال
توفي بريتن بريتنباخ في ذروة الانشغال بالتسويات، قبيل مساعي وقف النار في لبنان، وعينه على رام الله حيث دفن صديقه محمود درويش، وعلى غزة المشغولة هي الأخرى بدفن أطفالها وعائلات مُسحت من السجلّات. هكذا أمضى الشاعر المتمرّد على ظلم الحكّام واستبدادهم آخر أيامه متأمّلاً: "بين الأصدقاء الموتى/بوجوه حزينة مرقطة/مثل الكلاب التي تحدّق مباشرة في النافذة العمياء/بينما أفكارهم مثل النظّارات الفارغة/تدور في الأيدي/وكنت هناك/رقبة رفيعة وشارباً/قصائدنا عبيد كلّ منها بموجة كاملة/ريش بفخر على الرأس/ هذا هو الموسم الذي يبكي فيه الحالم/المغلّف بذكريات مظلمة/مثل طفل ملفوف في نسج الليل/غالبًا ما يبكي في نومه".
"ذنب لا يُغتفر"
كان بريتنباخ، المولود عام 1939 في بونيفيل على بعد 180 كلم إلى الجنوب من مدينة كيب تاون عند أقصى الطرف الحنوبي للقارة الأفريقية، الأكثر حدّة خلال النصف الثاني من القرن العشرين بين مناهضي نظام الفصل العنصري. ومثلما أخذته كلماته في الشعر والأدب إلى نجومية عالمية، أوصلته روح التحدّي إلى السجن يوم كتب قصيدة "رسالة الغريب إلى الجزّار"، ضمن مجموعته الشعرية "نار سوداء". اتّهم بمناصرته نلسون مانديلا الذي كان هو الآخر مسجوناً، وهاجم فريديرك دوكليرك آخر رئيس أبيض في نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا: "وأنت، أيّها الجزّار، أنت المكلّف بحماية أمن الدولة. بمَ تراك تفكّر ليلاً حين يعمّ الظلام بادئاً بإظهار هيكله العظمي/ وحين ينطلق من حنجرة السجين كما حين ولادته ذلك الصراخ الثرثار لسوائل المخاض؟/ هل تراك تحسّ بشيء من التواضع لحظة ذاك في حضرة ذلك الشيء المدمّى العامر بالتدفّقات البشرية، وقد أحاطت يداك بنفَس الموت المتقطّع؟".
فرنسا... الوطن البديل
بعد خروجه من سجن أمضى بين جدرانه 7 سنوات، وكانت العقوبة كاملة 17 عاماً، انتقل إلى منفاه الاختياري في فرنسا حيث استقبل بطلاً في عهد فرنسوا ميتران وهناك كتب نحو خمسين مجموعة شعرية باللغة الأفريكانية فيما كتب دراساته وقصصه وبعض المسرحيات باللغة الإنكليزية. ومن مؤلفاته الأكثر شهرة في العالم "ينبغي على البقرة الحديدية أن تكدح" و"بيت الأصمّ" و"موسم في الفردوس" والأخير عبارة عن كتاب في أدب الرحلات يصف فيه مشاهداته خلال رحلة قام بها مع زوجته الفيتنامية في جنوب أفريقيا بعدما سمحت لهما السلطات بذلك.
فعل الشعر
نال بريتنباخ شهرة واسعة بعد صدور كتابه "اعترافات إرهابي ألبينو"، وهي رواية عن سجنه وأحداث الفصل العنصري التي فرضت ضدّ الأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا بين عامي 1948 و1990. رواية قدّمته لاحقاً إلى الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي بات رفيق النضال والحياة. وإليه كتب: "وأنا أقول: إذا متّ قبلكم/ فإنّ ذلك يعني أنّي أعهد إليكم بالمستحيل/ وأسأل: هل الليل ما زال بعيداً؟/ فتجيبون: الجيل القادم/ سوف يستفيد/ من بطن الراقصة العمياء"، وذلك ردّاً على قصيدة لدرويش: "الشعر هو فعل حبّ، وليس حرباً. لأننا سنكون شعباً، يا شعبي، عندما ندرك / النبض الدقيق لشغف الحياة ودافع الموت.".
وبتكرار زياراته إلى فلسطين، دخلت إلى قاموس شعره عبارات مستجدّة عن غصن الزيتون والجدار والجنديّ والضيف والنفي والحبّ والبساتين والحلم بالحرية والتين والحصان ولغز لون الزهرة وعيون الحبيب وخيال الطفل ويد الجدّ تمسّد على حفيده.
وبرحيل درويش كتب الشاعر الذي عرف كيف يصوغ من أدبه ساحة للحرية: "سيكون على قيد الحياة بالنسبة إليّ في هذا الإيقاع من الطيور. أخبرته في آرل أنني أريد أن أقترح على زملائي الشعراء أن نعلن، كلّ واحد منّا، أنّنا "فلسطينيون فخريون". حاول أن يضحك بعيدًا عن الإحراج المعتاد لأخ. وفي الواقع، لا يمكننا أن نموت أو نكتب مكان شعبه، مكان محمود درويش. ومع ذلك، بطريقة ما، مهما كانت الإيماءة غير مجدية، أحتاج إلى محاولة القول كم كان شرفًا أن أعرف هذا الرجل".
وكتب أيضاً: "لن أتراجع عن معركتي الأساسية: جعل هذا العالم أكثر إنسانية، وأكثر عدالة، في وقت يتناسى الجميع معنى هاتين الكلمتين. الكلمة هي مضيق، رقعة بين محيطين معتمين... الكلمة هي أيضاً هذا السجن لكنّها الفضاء الوحيد الذي أعرفه، إنّها فجوة الحرّية الوحيدة.
شارون ونتنياهو
وبرحيل محمود درويش، أوفى بريتنباخ بعهده لصديقه بأن يكمل النضال ما أسعفته الكلمات لصالح الشعوب المقهورة. كتب إلى رئيس وزراء إسرائيل آنذاك آرييل شارون رسالة نشرتها الصحف الأجنبية: "إذا كان الامر يهمّك، فأنا كاتب من مواليد جنوب أفريقيا أقيم وأعمل خارجها اليوم. هناك نشأت وعشت لفترة ما بين أفراد "شعب مختار" هو الآخر يتصرّف كشعب من الأسياد أسوة بكلّ من يؤمن بمفهومه المطلق لإرادة الله وأوامره ويؤمن بتميّز وتفرّد آلامه. صحيح أنّ مندوبك تاجر الخيول المسروقة نتنياهو، يزاول مهنة الدعاية الفظّة بأوقح أشكالها، لكنّ الطريق إلى السلام لا تعبّد بمحق الآخر وسحقه وإبادته مثلها مثل الطريق إلى الجنة وهي أيضاً لا ترصف بجثث الشهداء".
وختم رسالته: "يا للخسارة ويا للرعب، يا للخسارة ويا للرعب!".
الزوجة... والسجن
سجن بريتنباخ لأنّه ارتبط بالفيتنامية يولاند نجو ثي هوانغ لين. في الستينيات، كان الزواج بين الأعراق في جنوب أفريقيا مخالفاً للقانون، وقد اعتبرت غير بيضاء.
كتب عن تجربته تلك: "زوجتي أكثر حكمة منّي. إنّها من فيتنام، وهي دولة صغيرة خاضت العديد من الحروب، وفازت بها كلّها، في النهاية. لقد أبقوا الصينيين بعيدًا، وكذلك اليابانيين، ثمّ الفرنسيّين والأميركيّين. لكنّهم لا يريدون التحدّث عن ذلك، والتباهي به، إنّهم شعب لطيف للغاية".
لاحقاً، انضمّ بريتنباخ إلى "أوكهيلا"، الجناح الأيديولوجيّ لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، أثناء وجوده في المنفى، لكنّه ظلّ مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بجذوره في جنوب أفريقيا.
وقد نعاه رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا في تغريدة عبر حسابه الرسمي في "إكس": "ننعي اليوم وفاة بريتن بريتنباخ، البالغ من العمر 85 عامًا، وهو عالم إنساني اجتاز هجومه الأدبي والمستمرّ على الفصل العنصري ومنفذيه ومؤيديه، المكتبات، وقاعات المحاضرات، والمعارض الفنية، والمسارح المسرحية حول العالم".
وفي وصية بريتنباخ، الشاعر والرسام والروائي المناهض لمختلف أشكال العنصرية: "دعونا ننسى الأقنعة والألعاب، فنحن جميعًا في هذا الشيء الرهيب الذي يُسمّى الحياة، وهو القارب الوحيد الذي نعرفه. لا أعرف إلى أين نحن ذاهبون، ولا أعرف ما هي الوجهة، ولا أعرف حتى من أيّ ميناء أبحرنا، ولست متأكّدًا من وجود مكان سنصل إليه بالفعل... دعونا نتشارك بعض تجاربنا في هذا الأمر".
وإن ترجّل بريتنباخ من "القارب الوحيد الذي يعرفه"، حتماً تبقى كلماته لتعبّد المسار لأوطان وكلمات تبقى حيّة: "ليس الوطن أرضاً... ولكنّه الأرض والحقّ معاً... الحقّ معك، والأرض معهم".