في استحضار المخزون الثقافي والوزن العربي المكتسب لمواجهة أخطار المرحلة

منبر 15-08-2025 | 03:15

في استحضار المخزون الثقافي والوزن العربي المكتسب لمواجهة أخطار المرحلة

لا شك أن التمسك بلبنان وبدستوره وبالعروبة الثقافية يشكل زوادة مهمة في رحلة استعادة الدولة...
في استحضار المخزون الثقافي والوزن العربي المكتسب لمواجهة أخطار المرحلة
لا خيار ولا حياة للبلد بجميع طوائفه إلا باستعادة الدولة لقرارها ولسيادتها عبر قواها الشرعية. (أ ف ب)
Smaller Bigger

يمر الشرق الاوسط بتحولات جراحية مؤلمة بدون بنج أو مسكنات، بعض سماتها انفلات التوحش الإسرائيلي المدعوم أميركياً من عقاله بشكل غير مسبوق، وسط ذهول وشبه صمت عالمي يقارب "التسطيل"، رغم مظاهر الاعتراض الشعبي ومؤخراً الرسمي الأوروبي والغربي عموماً، ولكن الفاقد للتأثير والفعالية أمام هول المشهد الذي يرسمه جبروت الثنائي ترامب/ نتنياهو.

 

وإذ يقود المايسترو الأميركي سمفونية الحرب والسلام بأسلحة الذكاء الاصطناعي محاولاً توحيد نغماتها في خدمة الباكس أميركانا والمصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، فإن ما يغذيها أيضاً هو مصالح وأطماع وهواجس وطبيعة قوى المثلث الإقليمي إسرائيل، إيران وتركيا.

 

ومع أننا لا نرغب في الوقوع في أي التباس عبر المساواة بين القوى الثلاث في مستوى عدائيتها وأطماعها وتوحشها، إلا أننا نرى أن تصاعد الشعور القومي والمذهبي وتمدد الأذرع الأيديولوجية والأمنية، خصوصاً الإيرانية منها، والعبث في دول ومجتمعات وشعوب وقضايا المنطقة العربية، خصوصاً في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، ساهم في تقوية اليمين القومي والديني التوراتي المتطرف في إسرائيل. علماً أن هذا التطرف غير المسبوق تعززت سيطرته مع تصاعد نفوذ اليمين الشعبوي في الغرب ومع تمدد الحركة الصهيونية المسيحية الأنغليكانية التي كانت في أساس الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، محدثة (updated) هذه المرة بعودة التنظير للحضارة المسيحية/اليهودية وما يرافقها من إسلاموفوبيا وعربوفوبيا.

 

وغني عن البيان أن القوى والمنظمات المتطرفة في إيران وإسرائيل وفي عموم المنطقة كانت الأكثر إفادة من الغزو الأميركي البريطاني للعراق بتداعياته الكارثية على الدول والشعوب العربية.

 

يحلو للكثير من المحللين في لبنان أن يعتبر المنطقة قد دخلت في مورفولوجي جيوسياسي يذكر بمرحلة تشكل الدول والكيانات الحالية في أعقاب الحرب الكبرى، حتى إن تصريحات توم براك حول مستقبل بلاد الشام أحدثت تخوفاً وقلقاً في صفوف اللبنانيين جميعاً وليس في "طرابلس الشام" فقط.

 

ومع أن أكثرية اللبنانيين ومنهم بالطبع الطرابلسيون هللت لانهيار النظام الأسدي المتوحش، إلا أن "التطبيع" مع النظام الجديد الذي يتعرض لامتحانات وتحديات وتجارب قاسية ما زال بطيئاً وملتبساً.

 

فقد تخربت سوريا العربية على مدى أكثر من سبعين عاماً من الانقلابات والديكتاتوريات والمذهبيات، خصوصاً في عهد الأب والابن، ولم تعد قلب العروبة النابض الذي واجه الأتراك أولا ثم الفرنسيين ثانياً والصهيونية ثالثاً.

 

وإذ لا تختزن الذاكرة المكثفة لأكثرية اللبنانيين سوى الجوانب الرمادية من سوريا، فقد انطلقت مباراة في اللبننة شارك فيها الطرابلسيون الذين نبشوا تاريخ وحجم ودور وفرادة الولاية الطرابلسية من عهد الفاطميين وبنو عمار، مروراً بالمرحلة الصليبية، وصولاً للعهد العثماني. والبعض ذكر بمنشئها الفينيقي حين تأسست كواحة تلاقي وتواصل بين المدن الفينيقيّة الأخرى.

 

كما أن بعض الأقلام حولت متصرفية جبل لبنان إلى "كيان لبناني" ضاهى الدول الأوروبية الحديثة، رغم أن الكثير من مثقفيه هجره إلى "بيروت الصاعدة" والاسكندرية والقاهرة وباريس ونيويورك وغيرها من الحواضر العالمية قبل أن يعود معظمهم ويساهموا في نهضة دولة لبنان الجديد الثقافية.

 

لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، عربي الانتماء، متجذر الثقافة الحرة التي تشكل أهم رافعاته. وللمرة الأولى ربما هناك نظام جديد يعمل على توحيد سوريا الحالية وغير طامع في لبنان، رغم عدم إعجابنا بالكثير من منطلقاته الفكرية والدستورية و مقارباته الأمنية.

 

ولكن يخطئ من يظن أن تاريخ لبنان الحديث كان منفصلاً عن تاريخ سوريا الحديثة وباقي دول المشرق والعكس صحيح. فالمؤتمر العربي السوري الذي أعلن الاستقلال في 8 آذار/ مارس 1920 من دمشق انتخب لبنانياً هو الشيخ الاصلاحي الطرابلسي رشيد رضا رئيساً للمؤتمر بعد تكليف رئيسه هاشم الاتاسي بتشكيل حكومة الاستقلال الأولى وانتخب الأمير المتنور فيصل ملكاً دستورياً غير مسؤول لأن الحكومة مسؤولة أمام البرلمان. وتشكلت الحكومة من وزراء ليبراليين كفارس الخوري و عبد الرحمن شهبندر ورضا الصلح وجورج رزق الله وساطع الحصري ويوسف العظمة، وكلف المؤتمر أستاذ الحقوق المندوب الطرابلسي عثمان سلطان بإدارة جلسات إقرار الدستور الذي صاغته لجنة دستورية متنوعة، وهو كان أول دستور عربي يفصل بين الدين والدولة رغم الإقرار بأن الإسلام هو دين الملك وليس دين الدولة كما أشاعت سلطات الاحتلال الفرنسي، (لبنان لحقه في دستور 1926).

 

واعتبر الدستور جميع المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، معتمداً اللامركزية الإدارية الموسعة والحكم الذاتي للمقاطعات، كما أسس لقانون انتخابات ديموقراطي بغرفتين مع كوتا بتمثيل أوسع للتنوع (الأقليات)، وكاد أن يقر بحق الانتخاب للمرأة لولا الخوف من التصدع الداخلي على قرع طبول الحرب الفرنسية على المملكة الوليدة، فترك البند معلقاً مع وعد لماري عجمي و "لجان دارك سوريا" نازك العبد بالإقرار بعد الاستقرار.

 

وقد استقطبت المملكة العربية السورية وفود التأييد من منوعات ومقاطعات وبلاد واسعة، بينها وفد من أكثر من نصف المجلس الإداري للمتصرفية برئاسة سعدالله الحويك شقيق البطرك الماروني بعد اجتماع مع رياض الصلح (ولا يعني ذلكً بالطبع تأييد الأكثرية المارونية المعارضة)، إلا أن الجنرال غورو اعتقل الوفد وحل مجلس المتصرفية، ولاحقاً دمرت قواته المملكة الوليدة فقتل واعتقل وهجر الكثير من الليبراليين الحداثيين التغييريين بعد مهادنة القومي التركي مصطفى كمال وبتواطؤ فرنسي بريطاني كولونيالي، ما أرسى الأرضية لتسيد طبقة كبار الملاكين والتجار والأعيان والشعبويين الدينيين والمتزلفين ولاحقاً العسكريين والديكتاتوريين وصولاً لحكم البعث والأسدين، وما ساهم في إطلاق حركات الإسلام السياسي على خلفية تعثر وتفكك الحلف الليبرالي/ الاصلاحي الذي آمن بالحداثة وبالمبادئ الولسونية.

 

وللمفارقة فإن الوفد الذي ذهب إلى باريس ولندن وجنيف للدفاع عن الاستقلال السوري كان برئاسة المسيحي الطرابلسي حبيب لطف الله في الوقت الذي كان الثلاثي ميليران/ غورو/ دوكيه يتهمون حكومة الاستقلال باضطهاد المسيحيين، مستفيدين من بعض الاحداث المؤسفة.

 

لا نرمي من هذه العجالة استعادة الحقبات التاريخية التي طواها الزمن، خصوصاً بعد أن ترسخت الكيانية اللبنانية بالميثاق الوطني بين بشارة الخوري ورياض الصلح ولاحقاً عبر اتفاق ودستور الطائف الذي أوقف الحروب الأهلية رغم استنسابية التطبيق نتيجة الوصاية المتحولة لاحتلال سوري ولاحقاً إيراني بواسطة "حزب الله" بعد زلزال اغتيال الحريري.

 

ما ندعو له هو استلهام المخزون النضالي والديموقراطي والثقافي الوطني والمشترك بين الشعبين الشقيقين، معطوف على المصالح العميقة والمتبادلة بين البلدين السيدين، لصياغة أفضل العلاقات وحل جميع القضايا العالقة بطريقة صحيحة و موضوعية و دون تلكؤ، بما فيها قضايا الترسيم البري والبحري وقضايا النازحين والمفقودين والمسجونين.

 

ولا بأس أن تتظلل الحلول مظلة ونظام المصالح العربية المتشكل حديثاً والمتحول لقوة عربية إقليمية يحسب لها، وفي مقدمها المظلة السعودية التي ما زالت تنظر بالود و التعاطف مع البلدين العربيين المعرضين لشتى الاخطار.

 

لا شك أن التمسك بلبنان وبدستوره وبالعروبة الثقافية يشكل زوادة مهمة في رحلة استعادة الدولة التي أنهكتها الحروب والاحتلالات والأزمات والتوحش الإسرائيلي المستمر فصولاً، خصوصاً مع الخطوة الجبارة التي خطتها الحكومة مؤخراً في استعادة زمام المبادرة في قضية احتكار السلاح و بسط سيادة الدولة على كامل اراضيها بقواها الشرعية.

 

لا أحد يقلل من صعوبة وحساسية وخطورة التنفيذ، خصوصاً أن "حزب الله" مصر على رهن الطائفة الشيعية حماية لسلاحه المرتهن بدوره لإيران و"فجورها" السياسي رغم هزيمة محورها.

 

والبعض يشبه ضجة الحزب المهزوم بسيارة متدهورة ومذياعها ما زال يزعق. ذلك أن الكل بات يدرك بمن فيهم الأخ الأكبر، أنه لا خيار ولا حياة للبلد بجميع طوائفه، خصوصاً الطائفة الشيعية التي دفعت بسبب العبث الحزب اللاهي ثمن التغول الإسرائيلي مضاعفاً، إلا باستعادة الدولة لقرارها ولسيادتها عبر قواها الشرعية وتطبيق 1701 بكامل مندرجاته، كما بالشروع بالإصلاحات التي ضجرنا من تكرار عناوينها والتي تحاول أن تشق طريقها بصعوبة بين أفخاخ الطبقة السياسية المتجذرة.

 

-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.

الأكثر قراءة

مجتمع 11/13/2025 4:43:00 PM
أكّد المدير العام للطيران المدني المهندس أمين جابر أنّ التحويل في مسار الرحلات جاء نتيجة الأحوال الجوية القاسية في الشمال.
سياسة 11/14/2025 2:56:00 PM
الجيش الإسرائيلي: الوحدة 121 بحزب الله مسؤولة عن ملف اغتيال سياسي لبناني مسيحي