دوّيرات ببركة حبر للشاعر ألان جرجورة

منبر 13-08-2025 | 09:18

دوّيرات ببركة حبر للشاعر ألان جرجورة

إذا كان العمل الفنّيّ لحظةً منفلتةً من الزمان، فإنّ الشعر تحديدًا زمانٌ آخرُ يولّد الأزمنة المتجدّدة. وإذا كان الجمال شمسًا توشّح وجه الكون، فإنّ القصيدةَ تَحديدًا كوّةٌ مفتوحةٌ على الضوء الأبديّ...
دوّيرات ببركة حبر للشاعر ألان جرجورة
تعبيرية (مواقع تواصل)
Smaller Bigger

 الدكتور روبير البيطار

 

 

 

إذا كان العمل الفنّيّ لحظةً منفلتةً من الزمان، فإنّ الشعر تحديدًا زمانٌ آخرُ يولّد الأزمنة المتجدّدة. وإذا كان الجمال شمسًا توشّح وجه الكون، فإنّ القصيدةَ تَحديدًا كوّةٌ مفتوحةٌ على الضوء الأبديّ...
وإذا كنّا في هذه المساءة الموشّاةِ بالضوء السرّيِّ، نحتفي بولادة ديوان صديقي الشاعر "ألان جرجورة"، فإنّنا، ولا شكّ، ندخل وإيّاه لحظةً وليدةً، نخرج عبرها إلى الزمان المنفلت من الزمان.
كلّما قرأت قصيدةً "للجرجورة" تستوقفني إشكاليّة طرحها النفّري يومًا، وهو من أبرز علماء التصوّف في القرن الرابع الهجريّ، ويجمع بين التصوّف والفلسفة والأدب ، قال: "كلّما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة"، وأتساءل: أيُّهما أعمق وأنقى؟ التجربة الّتي يتناولها الشاعر في خطابه، أم لغته؟
في عمليّة رصد للوحدات الشعوريّة والفكريّة الّتي يطرحها "ألان" في "دوّيراته" نلمح البيت بكلّ مكوّناته: من العتبة إلى الطريق فالقرميد، فالطفولة فالجدّ والجدّة والأمّ والأب والابن والأخ الموعود، ثمّ تظهر صورة الله بتجلّياتها وقدسيّتها وسمائها، فالشعرُ والموهبة، ثمّ الوطن والطبيعة، ولا يخلو الديوان من البكاء والدمع حتّى الحُبّ، ومن الزمن والوقت حتّى الانبعاث... غير أنّ السمة الطاغية على "الدّويرات" الـمئةِ فهي الفلسفة القائمة على العودة، أو الولادةِ الجديدة:
يمكن طريق العمر دوّيره
ما فيك تمشي عا درب غيرا  
هيّي محلّا وإنت عم بتثور
متل الحجر لِ نزتّ ببحيره
أو
الإنسان عم يبرم ع برماتو
كلّ اللي خلقو بمطرحن ماتو
لبيموت رح يخلق وقت ما مات
ت يعيد كلّ اللي مرق ذاتو...
تدور "دوّيرات" القصائد حول الشاعر بوصلة الوقت، الممتلئ بالشعر والشعراء:
يمكن وقت مَ خلقت مدري مين
فضّى العمر من ناس موجوعين
وعبّا وقت فيّي
لقد دخل الشاعر تجربة روحيّة فلسفيّة من نوع خاصّ، هي نزعة الخلود، والبحثُ المستمرّ عن الفردوس المستعاد، والانتصارُ الأكبر للشاعر هنا ليس انتصارًا على الشيطان كما في قصيدة "جون ميلتون" في "الفردوس المستعاد"، بل هو انتصار على الموت بالشعر. يحاول الشاعر أن يلتقط اهتزازات الكون ليصنع منها زمانه المفتوح. قد لا تكون هذه الظاهرة بحدّ ذاتها جديدة على الشعر العربيّ من الجاهليّة إلى أيّامنا هذه، بيد أنّ "ألان" غيّر مسار المفهوم، من الخالد إلى المستعاد حتّى اللانهاية. لذا رسم العالم في دائرة، بل دوائر في بركة من الحبر، في هالةٍ من نور سحريّ تتراكم فيه النفسُ الشاعرة داخل سحابات من الكلمات المتصاعدة كالبخور نحو معراج الخلود.
عم حسّ عم عيد المرق كلّو
ول عايشو عشتو قبل هلّق
عدتو ت إبقى بهالدني معلّق

لبيموت م بيخلص رح يضلّو
بمرجوحة الإيّام يتعنزق...
 لا يمكننا القول إنّ الشاعر ينزع إلى التقمّص، وليس متصوّفًا بالمعنى الحرفيّ كالحلّاج والبسطامي وجلال الدين الرومي وابن الفارض وابن عربي وغيرِهم، وليس بوذيًّا أو درزيًّا، وليس أرسطيًّا نسبةً إلى أرسطو الّذي كان يقول: "إعرِف نفسك"، وهو كان يرى أنّ النفس إذا لم تكن صالحة فستعود إلى الأرض بعد موتها لتحِلّ في جسد حيوان. وليس جبرانيًّا ولا نعيميًّا، فـ"جرجورة" لا يسعى إلى إدراك الحقائق الإلهيّة، ولا يسكنه هاجس الموت والخوف منه وممّا وراءه. هي مجرّد نزعة شاعرة إلى الحرّيّة بل إلى الخَلْق في هذا الفضاء الحرّ اللانهائيّ.
فإذا وضعنا التجربة في مقابل اللغة، وضعنا الدالّ في مقابل المدلول. فالدالّ تجربة روحيّة عميقة توارثها الإنسان وأراد باللغة أن يعيد تشكيلها، واللغة هي "اللوغوس" أو الخطاب والعقل الكلّيّ أو العقل اللانهائيّ لله. أمّا الاختلاف بين الدّالّ والـمدلول أو بين الـمحسوس والـمعقول فهو ينتمي إلى "الفجوة الغريبة" أو إلى ما يسمّيه "جاك دريدا" "نزعة الخلق والنزعة اللانـهائيّة" وهو يرى أنّ هذا الاختلاف له جذور ميتافيزيقيّة لاهوتيّة، وهو ما كان يـمثّل القدسيّة الـمحتّمة الّتي تربط بين العبارات وتوحّد بين الإشارة اللغويّة الـمحسوسة، والبعد الدلاليّ اللامحسوس. "هذا اللوغوس الـمطلق كان في لاهوت العصر الوسيط ذاتيّة خالقة لانـهائيّة. الواجهة الـمعقولة للعلامة تبقى مولّية، ووجهها نحو الكلمة ونحو الله."

 

 

 

يُعيد الشاعر "ألان جرجورة" تشكيل العالم على إيقاع الشعر. هو ينظر إلى الكون نظرة شاعرة والله زميل له في الشعر: "حسّيت ألله متل شاعر منتشي  وقاعد ع حفّة هالدني يكتب شعر". ثمّ ينظر إلى الموت فيتبدّى له مكانًا لكتابة الشعر والعودة إلى الأرض:  
في مقبرة ع طراف ذاكرتي
دافن فيا كمشة شعر وتراب
والمقبرة متل اللي صارت محبرة
وع طراف محبرتي
في حبر رجعو شعر
ف تراب رجعو صحاب...
واضح أنّ اللغة الّتي أوجدها مبتكِرُها ملتبسةٌ التباس التجربة، وعليه، فإنّ اللغة الشعريّة العاصية اللامألوفة في قصائد "دوّيرات ببركة حبر"، وسيلة أوجدها الشاعر لتحدّي غموض العالم الغريب وما يكتنفه من أسرار وعجائب، فإذا به يلجأ إلى هذا الغموض نفسه، لإعادة ابتكار العالم على إيقاع الغرابة والوحدانيّة والتفرّد الـمبدع، انطلاقًا من مبدأ الحرّيّة القائمة على اللاتحدّد واللاحتميّة. أمّا التغيير الّذي سعى إليه فليس تغييرًا للعالم وحسب، ولا تجديدًا في الأساليب والطّرائق فقط، بل هو تغيير ذاتيّ لحياة الشاعر نفسِه وتعبيرٌ عن التباساتها وغموضها وإشكالاتها وتناقضاتها... لذا نستطيع أن نقول، إنّ المعادلة واضحة: بما أنّنا نتحدّث عن لا محدوديّة العالم فإنّ القصيدة الّتي ترقى إليه لا نهائيّة أيضًا، فهي مطلقة في شكلها وصورها وإيقاعاتها. وقصائد "ألان نقولا جرجورة" المئة ضاربةٌ في العمق، غائِرةٌ في النفس البشريّة، كثيرة القمم والماء، حقّقت ثلاثيّة الشعر: الإبداع والجمال والسحر. وهي واسعةُ الرؤية واسعة العبارة.
أبارك لنا بنتاجك الشعريّ الّذي انتظرناه طويلًا، صديقي الشاعر الّذي يكتب على إيقاع الــمِزاجِ، نسألُكَ أن اكتب فالعالم يحتاج إلى قدّيسين وشُهَداءَ وشعراء، نبلغ بهم ومعهم سِدرةَ المنتهى... ويتولّد لنا زمانٌ آخرُ منفلتٌ من الزمان، يولّد الأزمنة المتجدّدة، وكوّةٌ مفتوحةٌ على الضوء الأبديّ...

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/6/2025 12:01:00 AM
لافتات في ذكرى سقوط نظام الأسد تُلصق على أسوار مقام السيدة رقية بدمشق وتثير جدلاً واسعاً.
المشرق-العربي 12/6/2025 1:17:00 PM
يظهر في أحد التسجيلات حديث للأسد مع الشبل يقول فيه إنّه "لا يشعر بشيء" عند رؤية صوره المنتشرة في شوارع المدن السورية.
منبر 12/5/2025 1:36:00 PM
أخاطب في كتابي هذا سعادة حاكم مصرف لبنان الجديد، السيد كريم سعيد، باحترام وموضوعية، متوخياً شرحاً وتفسيراً موضوعياً وقانونياً حول الأمور الآتية التي بقي فيها القديم على قدمه، ولم يبدل فيها سعادة الحاكم الجديد، بل لا زالت سارية المفعول تصنيفاً، وتعاميم.
ايران 12/4/2025 7:49:00 PM
واشنطن ترصد 10 ملايين دولار للإبلاغ عن الخبيرة الإلكترونية الإيرانية فاطمة صديقيان المتهمة بهجمات سيبرانية على بنى تحتية أميركية