النهار

أميركا ترامب
المصدر: "النهار"
العامل الخارجي الأكثر تأثيراً في الانتخابات الرئاسية يرتبط بمدى انخراط أميركا وجيشها في حروب خارج البلاد
أميركا ترامب
A+   A-

د. فريد الخازن

ثمة مبالغة في الكلام المتداول عن أن فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية كان محسوماً. وإذا افترضنا أن الفوز كان مرجّحاً فليس بنسبة الأصوات التي تجاوزت الخمسين بالمئة أو لجهة الحسم لمصلحة ترامب في جميع الولايات المتأرجحة. ولا بد من تسليط الضوء على دلالات هذا الانتصار الذي يعكس واقع المجتمع الأميركي وخيارات الأكثرية الشعبية.

 

أولاً، أكدت نتائج الانتخابات أن الشعب الأميركي محافظ في خياراته. القيم المتصلة بالتوجه المحافظ في أميركا تتفوق أهمية وتختلف مضموناً بالمقارنة مع دول غربية أخرى. الواقع أن الشرخ السياسي في أميركا ليس صورة طبق الأصل عن توجهات اليمين واليسار في أوروبا. بالطبع، فوز ترامب في جانب منه رد فعل على الفشل في أداء بايدن، وتحديداً في السياسات الداخلية. لكنّ ثمة جانباً آخر لا يقلّ أهمية يعود إلى فقدان الحزب الديموقراطي هويته التقليدية، بعدما تحوّل إلى تجمّع عشوائي لمعارضي ترامب والحزب الجمهوري.

 

ثانياً، مثّل الحزب الديموقراطي تاريخياً مصالح العمال والسود والأقليات، والمهاجرين ومنهم الإيرلنديون والإيطاليون في أجيال مضت، وهو لم يعد كذلك. ففي السنوات الأخيرة جنح الحزب الديموقراطي باتجاه اليسار حتى في المسائل الاجتماعية. فالليبرالية شيء وتبنّي طروحات الإجهاض وحقوق المثليين شيء آخر. فلا حزب شيوعياً في أميركا ولا يسار بالمعنى المتعارف عليه في أوروبا. أحزاب اليسار في أوروبا جزء من النسيج الاجتماعي والسياسي، وهي كانت فاعلة ومؤثرة في الماضي وتراجع حضورها لأسباب عدة. أما في أميركا فاليسار، لا سيما المتشدد، جسم غريب في المشهد السياسي بنظر الأميركيين المنتمين إلى mainstream من الحزبين. الرئيس ترامب عرف كيف يضرب على هذا الوتر الحساس. ففيما الحزب الجمهوري تجمعه نواة صلبة وهوية واضحة المعالم فإن الحزب الديموقراطي مشتت.

 

هكذا يمكن تفسير نسبة التأييد المزيّفة لترامب في أوساط المهاجرين، وتحديداً من أميركا اللاتينية، الذين لا يحملون أجندة قومية أو دينية، مثلما هي حال المهاجرين في أوروبا. وكذلك النسبة المرتفعة نسبياً من أصوات السود والنساء والأقليات، ومنهم اليهود، وبعض نخبهم أسهم في قيام "المحافظين الجدد".
ثالثاً، ظاهرة identity politics بدأت منذ سنوات، قبل ولاية ترامب الأولى، مع استنهاض الحزب الجمهوري بقيادة Newt Gingrish ثم رئاسته لمجلس النواب بعد عقود من هيمنة ديموقراطية. أما أوباما فشكل حالة استثنائية، وهو الرئيس الأول من أصول أفريقية، وكان ترشيحه عامل جذب لأسباب متنوّعة. في المقابل، نائبه بايدن لم يحسن القيادة من موقع الرئاسة، وظل التنافس قائماً مع ترامب الذي سرعان ما تحوّل بنظر مؤيديه إلى ضحيّة. ومع المرشحة هاريس قضايا المرأة لم تكن عامل جذب حاسماً لأصوات الناخبات، وبدت في حملتها كأنها بدل من ضائع.

 

رابعاً، للعامل الديني في الولايات المتحدة تأثير في السياسة وخصوصاً في الأوساط الإنجيلية، حيث تركت شخصيات بارزة أثراً في الخطاب السياسي. المجتمع الأميركي عموماً متديّن، أو هو أكثر تديّناً من المجتمعات الغربية الأخرى. شعارات الحملة الانتخابية للمرشحة هاريس لم تلق تأييداً في أوساط المحافظين المستقلين أو غير المسيّسين لأسباب دينية واجتماعية. وفي استطلاع حديث للجيل الجديد ضمن الإكليروس الكاثوليكي الأميركي تبيّن أن الأكثرية محافظة. الكنيسة الكاثوليكية في أميركا أقل انخراطاً في الشأن السياسي من الكنائس الأخرى، إلا أن الملتزمين يميلون إلى توجهات المحافظين أو هم لا يحبّذون الليبرالية المفرطة.

 

خامساً، في ما يخص الليبرالية، المساواة بين المرأة والرجل قائمة ولا تمييز عنصرياً في القانون، وإن كان للعنصرية تأثير متواصل في السلوك والذهنيات. إلا أن الهمّ اليومي الضاغط للناس العاديين مصدره الأوضاع الاقتصادية المتردية. مفهوم دول الرعاية في أميركا لا يتطابق بالضرورة مع المفاهيم الأوروبية. أما همّ المهاجرين من أميركا اللاتينية فهو الارتقاء من الهامش إلى الوسط. فإن كان الجيل الأول يميل إلى الحزب الديموقراطي للحماية والانخراط، فالجيل الثاني طموحاته أوسع وقد تتلاقى مع طروحات الحزب الجمهوري والحلم الأميركي المنشود (American dream).

 

وأخيراً، تبقى السياسة الخارجية على هامش اهتمامات الناخبين في هذه الانتخابات وسواها. العامل الخارجي الأكثر تأثيراً في الانتخابات الرئاسية يرتبط بمدى انخراط أميركا وجيشها في حروب خارج البلاد، والحالة الأبرز حرب فيتنام في الستينيات. وفي ما عدا ذلك الانتخابات الرئاسية، كما انتخابات مجلسَي الكونغرس، محلية الطابع والحسابات. أما الاهتمام الظرفي بولاية معيّنة خلال الحملات الانتخابية فيعود إلى نظام الاقتراع. ففي ولاية ميشيغان، مثلاً، التي شهدت حضوراً للحزبيين تمكن ترامب من كسب مؤيّدين على رغم دعمه المعلن لإسرائيل منذ الولاية الأولى. إلا أن الحزب الديموقراطي وهاريس ليسا أقلّ دعماً لإسرائيل. ومع أن لنتنياهو نفوذاً في الكونغرس يتجاوز نفوذ بايدن، وهو قادر على أن يتجاهل بايدن أو هاريس، فإن من الصعب أن يتجاهل ترامب إذا دعت الحاجة. 

 

تبقى الإشارة إلى مسألة الانعزالية التي لها جذور داخل المؤسسات (establishment) ولدى الرأي العام. محاولة رئاسية أولى للخروج من الانعزالية بدأت مع الرئيس ويلسون بعد الحرب العالمية الأولى ووصلت إلى طريق مسدود مع رفض الكونغرس السير بها والانضمام إلى عصبة الأمم. محاولة ثانية انطلقت بعد الحرب العالمية الثانية، وسرعان ما أخذ الانخراط الأميركي في الشؤون الدولية مداه ولم يعد بالإمكان التراجع مع اندلاع الحرب الكورية في مطلع الخمسينيات. أما اليوم فبعد انتهاء الحرب الباردة وفي ظلّ المنحى البراغماتي لرجل الأعمال ترامب، ابتعاد أميركا عن التزاماتها الدولية المعروفة مطروح، والامتحان يبدأ في أوروبا مع حرب أوكرانيا ودور الحلف الأطلسي  والعلاقة مع روسيا. أما الصين فحالة مختلفة مرتبطة بالمنافسة مع أميركا الدولة العظمى. إنها مقاربة ملفات بأساليب business المتعارضة مع multilateralism  التي أرست ركائزها واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية.

 

في الختام، ترامب يفعل ما يقول، وإلى فائض القوة لديه مقدرة على التنفيذ ability to deliver، بمعزل عن مدى صوابية السياسة المتبعة وجدواها. لا شبيه لترامب بين رؤساء أميركا، فهو ظاهرة استثنائية حتى بالمقياس الأميركي. في ولايته الجديدة، قد يكون أقل مغامرة وأكثر تصميماً من قبل. في الولاية الأولى الشرق الأوسط كان إضافة مميزة بعد الصين وروسيا، أما اليوم فبات مسألة ضاغطة لا يمكن تجاهلها. ومع ترامب العائد بزخم بعد انكسار، مقاربات الرئيس، المعلوم منها والمجهول، قد لا تخلو من مواقف غير متوقعة.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium