في أقل من مئة يوم فقط: كيف فرّقت واشنطن خصومها وأعادت الإمساك بزمام العالم؟
بكر حلاوي
لم تحتج الولايات المتحدة إلى أكثر من مئة يوم لتُعيد رسم خريطة العالم السياسية والاستراتيجية على طريقتها. مئة يوم فقط كانت كافية لإدارة الرئيس دونالد ترامب – التي عادت من نوافذ السياسة لا من أبواب الانتخابات – كي تُفعّل سياسة خارجية هجومية غير تقليدية، قائمة على مبدأ واحد: "فرّق خصومك، ثم تفاوض معهم وأنت الأقوى."
ففي لحظة بدا فيها أن العالم يتّجه نحو تحالفات جديدة تُهدد موقع واشنطن كقوة أولى، عادت أميركا إلى الواجهة بقوة فائقة، وبخطة مدروسة لم تترك خصماً خارجياً إلا استهدفته، لا بطريقة المواجهة الجماعية، بل عبر نهج التفكيك والتجزئة، ثم فرض الشروط. من موسكو إلى بكين، ومن طهران إلى غزة، ومن صنعاء إلى كراكاس، تدفقت التحركات الأميركية كالشطرنج، كل نقلة فيها مربوطة بنقطة ضعف لدى الخصم، أو فرصة استراتيجية على الأرض.
منذ اليوم الأول لعودة دونالد ترامب إلى المشهد السياسي، بدت السياسة الخارجية الأميركية كأنها خريطة معارك مفتوحة على جميع الاتجاهات. فخلال مئة يوم فقط، انتهجت واشنطن سياسة تصعيدية واضحة تجاه خصومها التقليديين والجدد، كلٌّ على حدة، في مشهد يبدو كأنه عملية إعادة رسم للنفوذ الأميركي في العالم.
من الجبهة الأوروبية الروسية، حيث تاريخياً كانت واشنطن تُعزز دعمها لكييف في مواجهة موسكو، إلى الجبهة الصينية حيث تتصاعد المواجهة التجارية والتكنولوجية مع بكين، مروراً بالجبهة الإيرانية التي عادت إلى الواجهة باعتبارها التهديد الأخطر لأمن الشرق الأوسط الحيوي للسياسة الخارجية الأميركية، وصولاً إلى فنزويلا وأميركا اللاتينية، حيث عاد "الفناء الخلفي" إلى حسابات الضغط والعقوبات، بدا كأن إدارة ترامب تسابق الزمن لضبط ميزان القوى العالمي لمصلحتها.
روسيا: التفاوض لا يعني السلام… بل تحييد أوروبا
في الملف الروسي، أدركت إدارة ترامب مبكراً أن جميع خصوم الولايات المتحدة – بمن فيهم روسيا – يتشاركون رغبة واحدة: الجلوس إلى طاولة مفاوضات مع واشنطن. وقد استغلت الإدارة الأميركية هذه النقطة بمهارة، فبدأت بتحريك قناة تفاوض مباشرة مع موسكو عبر مبعوث خاص. أدركت إدارة ترامب أن موسكو، رغم عدائها الظاهري، لا تزال ترغب في حوار مباشر مع واشنطن. استُخدمت هذه الرغبة بذكاء، ففُتحت قنوات غير معلنة للتفاوض عبر مبعوث خاص، ثم دخل ستيفن ويتكوف، مبعوث الشرق الأوسط، على الخط، في مشهد يوحي بإعداد لتفاهم أوسع حول أوكرانيا.
لكن خلف الكواليس، لم تكن واشنطن تسعى لسلام بقدر ما كانت تريد تحييد الدور الأوروبي. فالحرب التي تراها أوروبا تهديداً مباشراً لها، قررت واشنطن أن تُعيد هندستها كثنائية روسية-أميركية، تُبعد العواصم الأوروبية عن طاولة القرار، وتمنع بروكسل من بناء موقع مستقل في المعادلة الدولية.
إيران: التفاوض تحت فوهة المسدّس
كما فعلت مع روسيا، استغلت إدارة ترامب نقطة الضعف نفسها في طهران: الرغبة المزمنة لدى القيادة الإيرانية في الجلوس إلى طاولة واحدة مع واشنطن. لكن هذه المرة، لم تكن الشروط كما كانت في مفاوضات الاتفاق النووي عام 2014. لكنها فعلت ذلك بأسلوب معاكس للنهج الديبلوماسي ذي المسار الطويل الذي أنتج اتفاق 2014. أرسل الرئيس ترامب رسالة مباشرة إلى المرشد الأعلى علي خامنئي، تضمّنت دعوة للمفاوضات، ومهلة لا تتجاوز 60 يوماً، مع تهديد غير مباشر بالخيار العسكري.
استجابت طهران، وبدأت مفاوضات مباشرة في مسقط، بحضور عباس عراقجي عن الجانب الإيراني، وستيفن ويتكوف عن الجانب الأميركي، لكن واشنطن رسمت إطاراً زمنياً ضاغطاً: إما نتائج ملموسة، أو التصعيد. حتى إسرائيل لم تكن على اطلاع مسبق، إذ أُبلغ نتنياهو في زيارة مفاجئة للبيت الأبيض ببدء المسار، ما يعكس حجم السرية والتخطيط المحكم في إدارة الملف.
لا يمكن هنا إهمال تصريح الرئيس الروسي بوتين عن إيران حيث قال "نحن نؤيد عدم حيازة إيران أي سلاح يمكن أن يهدد أمن إسرائيل". هذا التصريح، الذي خرج عن رئيس دولة تُعدّ حليفة لإيران في ملفات عدة، شكّل تحولاً لافتاً في الخطاب الروسي تجاه طهران، ويُعد مؤشراً واضحاً على تقارب استراتيجي روسي-أميركي في سياق تحييد إيران عن شبكة دعمها التقليدية.
ترافق ذلك مع مفاوضات غير معلنة مع حركة "حماس" بوساطة قطرية، لإطلاق الرهائن، ما يعني عزل حرب غزة ومجرياتها ومصالح نتنياهو السياسية عن الملف الإيراني. وفي اليمن، بدأت ضربات أميركية مباشرة ضد الحوثيين، ما أفشل أي إمكانية لتوحيد "جبهة الممانعة". كل طرف بات يتعامل مع واشنطن منفرداً، وبشروطها.
الصين: الحرب التجارية كواجهة لفرض الهيمنة
وفي الجبهة الاقتصادية، أعادت إدارة ترامب تشغيل الحرب التجارية، لكن هدفها الحقيقي لم يكن فقط ضبط الميزان التجاري، بل كسر الطموح الصيني العالمي. لم تكن أهداف الرئيس ترامب اقتصادية صرفة بقدر ما كانت سياسية واستراتيجية. فمنذ اللحظة الأولى، بدا واضحاً أن كل هذا التصعيد لم يكن موجّهاً سوى لهذا الخصم الواحد. أما باقي الحلفاء التاريخيين – من الاتحاد الأوروبي إلى كندا والمكسيك، ومن اليابان إلى كوريا الجنوبية – فكانوا مجرد ضحايا جانبية، تلقّوا "هزّ العصا" الأميركي لتذكيرهم بمَن يملك القرار في النظام التجاري العالمي.
كل الرسوم الجمركية، والتصعيد الإعلامي، وتهديدات الحظر، لم تكن إلا أدوات تحاول إجبار بكين على التراجع. ولتنجح واشنطن، كان عليها أولًا أن تعزل الصين عن حلفائها داخل مجموعة "البريكس"، وهو ما حدث بالفعل، حين استثنت روسيا من موجة الرسوم، وحيّدتها عن دعم بكين في هذا الملف.
النتيجة واضحة، توقفت الحرب التجارية سريعاً مع الكل باستثناء الصين، وبدأت جولات التفاوض مع معظم دول العالم، وكلّها سعت لتجنّب غضب واشنطن. حتى الحديث عن "العملة البديلة للدولار"، الذي تبنّته البريكس منذ أشهر، تبخّر كأن لم يكن، ما أكد أن الهيمنة الاقتصادية الأميركية لا تزال عصيّة على الكسر.
اللافت أن هذه الحرب، التي بدأت بعناوين نارية، لم تدم طويلاً؛ فبعد أيام عُلّقت الرسوم التجارية المضادة الأميركية على الكل باستثناء الصين، وتوقفت التصعيدات، وبدأت جولات المفاوضات تتوالى مع معظم دول العالم. وبهذا، نجحت إدارة ترامب في فرض شروطها، وتقليص العجز التجاري، وجعل الدول الكبرى تُهرول إلى طاولة المفاوضات تجنباً لغضب أميركي جديد.
كانت الرسالة واضحة: من يرِدْ أن يكون جزءاً من النظام التجاري العالمي، فعليه أن يمر عبر واشنطن.
وهكذا، أثبتت الإدارة الأميركية أن نفوذها الاقتصادي، لا يقل قوة عن هيمنتها العسكرية، وأن من يتحكم في التجارة، يمكنه إعادة رسم الجغرافيا السياسية للعالم.
استراتيجية التفكيك: كيف ربحت واشنطن المواجهة بدون معركة؟
إذا نظرنا إلى المشهد العام، نرى أن واشنطن لم تكن لتنجح في جمع روسيا إلى طاولة المفاوضات لولا تحييدها عن حلفائها، ولم تكن لتُخضع طهران لجدول زمني تفاوضي لولا عزلها السياسي عن محور المقاومة وروسيا ولم تكن لتطلق حربها على الصين لولا إبعاد موسكو عن بكين في الملف الاقتصادي.
فكرة "تجزئة الخصوم" التي اعتمدتها إدارة ترامب لم تكن عبثاً، بل كانت استراتيجية ممنهجة. خصمٌ واحد في كل مرة، ومفاوضات منفصلة، وشروط أميركية صارمة، مقابل امتيازات رمزية تُمنَح لتغذية وهم الشراكة.
من كان يتوقع أن تُواجه الصين وحدها، وروسيا وحدها، وإيران وحدها؟ من كان يظن أن مجموعة البريكس ستكون صامتة في هذه الأيام، وأن أوروبا ستُقصى من تسوية أوكرانيا، وأن "حماس" وطهران ستتحاوران مع الأميركيين من دون تنسيق مشترك؟
ما حدث خلال المئة يوم الأولى من عودة ترامب ليس صدفة. إنها عودة السياسة الأميركية بقفّاز حديدي، لكنها هذه المرة، استخدمت عقل السياسة أكثر من عضلات الحرب.
- المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
نبض