ما بعد وقف إطلاق النار لا تهدأ الأرواح كما تهدأ عدوانية الصواريخ. الحرب تترك بصمة لا تُمحى، تتغلغل في كل زوايا الوطن الأربع، في كل قلب ونظرة.
فرنسيسكا موسى
ما بعد وقف إطلاق النار لا تهدأ الأرواح كما تهدأ عدوانية الصواريخ. الحرب تترك بصمة لا تُمحى، تتغلغل في كل زوايا الوطن الأربع، في كل قلب ونظرة. هناك، في الجنوب، البقاع والأهم العاصمة بيروت، حيث كانت الحياة تعجّ بالفرح، أصبحت الأطلال شاهدة على مأساة تفوق الوصف. المدن التي كانت تنبض بالحب والحركة تحوّلت إلى ركام، والمنازل التي ملأتها الضحكات باتت حجارة صامتة. في لبنان، يتجسد هذا المشهد بكل ثقله. الأهالي يقفون بين الركام، يبحثون عن بقايا ذكريات وأمان مفقود. لكن الحرب ليست مجرد دمار مادي، بل زلزال يضرب الأرواح. الأطفال فقدوا طفولتهم، والأحلام تشردت بين سطور الوعود، والعائلات تغرق في فقر المال والأمان كأنها تعاقب على ذنب لم تقترفه. الحرب سرقت الأمل، وحوّلت الحاضر إلى عبء، والمستقبل إلى سؤال لا جواب له. كيف تُعاد الحياة إلى تلك الشرفات التي أصبحت فارغة؟ كيف يُرمَّم الحجر من دون ترميم النفوس؟ ومع ذلك، يبقى الأمل خياراً لا بديل عنه. إعادة البناء ليست مجرد ترميم المباني، بل هي نهوض من تحت الركام، وبعث للأمل في قلوب أنهكها الألم. استعادة الحياة بإحياء الأحلام، وبتحويل الخراب إلى بداية جديدة. ويبقى السؤال: من سيعيد العمر الضائع؟
أتوجه إليكم، أيها الحكومات، صُنّاع القرار، والمنظمات الدولية: لماذا تظل الحروب هي لغة الحوار بين الأمم، بينما تتحمل الشعوب وحدها أعباءها؟ لماذا تتحول أوطاننا إلى ميادين لصراعات المصالح، حيث يُدفن الأمل تحت الأنقاض، وتُجهض الأحلام في مهدها؟ أليست مسؤوليتكم الأساسية هي حماية الإنسان، لا الزج به في دوامات المعاناة؟ إن الحرب ليست مجرد معركة عابرة، بل هي مأساة تُعمّق الجراح في الأوطان، وتُدمّر الأجيال، وتترك إرثاً من الفقر والخوف والاضطراب النفسي. الأطفال الذين يُفترض أن ينعموا بالأمان باتوا شهوداً على الدمار، والشباب الذين يُعوّل عليهم لصنع المستقبل أُجبروا على الهجرة أو العيش في ظل اليأس. كيف يمكن لمجتمعٍ أن ينهض، بينما يُثقل كاهله بذاكرة مليئة بالمآسي وواقع مليء بالحرمان؟ نحن ندعوكم لتحمل مسؤولياتكم الأخلاقية والإنسانية. لا يكفي الحديث عن وقف إطلاق النار أو السعي لحلول موقتة؛ المطلوب سياسات عالمية حقيقية تُعلي من قيمة السلام، وتُقدّم الحوار على العنف. أين القرارات التي تحمي الشعوب من مغبة الصراعات؟ أين الجهود الجادة لبناء أنظمة تُجرّم الحروب بدلاً من إدارتها؟ إننا كشعوب نبحث عن أبسط حقوقنا: العيش بكرامة، وأمان، وأمل. نريد أن نرى العالم يتكاتف ليس فقط لإنهاء النزاعات، بل لبناء مستقبل أفضل. الحرب خيارٌ بائد لا مكان له في عالمٍ يُفترض أن يكون أكثر وعياً وإنسانية. آن الأوان للتحرك. لقد تعبنا من دفع ثمن قرارات ليست لنا يد فيها.
لبنان ليس مجرد وطن بل رسالة خالدة وفق ما قال البابا يوحنا بولس الثاني: "إن لبنان هو أكثر من وطن، هو رسالة حرية وعيش مشترك للشرق والغرب”. في عمق هذا الدمار الذي مزَّق الأحلام وبعثر الذكريات، يبقى لبنان يحمل هذه الرسالة بكل أصالتها، رسالة التعايش والأمل والقدرة على النهوض رغم الجراح. إعادة بناء لبنان ليست مجرد ترميم للحجر، بل إحياء للروح واستعادة للقيم التي جعلت منه نموذجاً للتعددية والعيش المشترك. الأمل ليس خياراً بل واجباً في وطن يحمل رسالة عالمية. من بين الركام، يمكن أن ينبثق نور جديد، فتعود الشرفات شاهدة على ضحكاتٍ جديدة، والمدن تنبض بالحياة. لبنان قادر على النهوض من تحت رماده، ليظل كما أراده التاريخ... وطناً للرسالة. سؤال العمر الضائع يثقل القلوب، لكن إيماننا بقدرة هذا الوطن على الصمود يظل أقوى من كل الألم. إنه رسالة لا تكتب فقط للبنانيين، بل للعالم أجمع