جواد الساعدي*
أدركت إيران أم لم تدرك، فإن أهدافها المعلنة بـ"تدمير الكيان الصهيوني" أو "إخراج الأميركيين من المنطقة لتتولى دولها الأمنَ بنفسِها"، ليست سوى شعاراتٍ غير قابلة للتنفيذ؛ لكنّها في الحالين، غطاءٌ لأهدافٍ توسعية، وشعاراتٌ تلعب دور التغذية لروح ميليشياتها وأتباعها والمتعاطفين معها؛ وسحرٌ سياسي، تفرض من خلاله عليهم، "مغناطيسيًّا"، المزيد من الطاعة والخضوع الصوفي بين "الولي" و"المُريد".
في هذا الإطار، تدخل أيضًا استعراضات القوة والتلميحات "النووية"، والإشاعة، بأن إيران قد تعدّت الموانع وأجرت تجربةً ذريّة.
أثناء الحرب الباردة التي بدأت بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في نهاية الحرب العالمية الثانية وانتهت بانهيار الاتحاد السوفياتي، وصف الزعيم الصيني آنذاك، ماو تسي تونغ (1893-1976)، الرأسمالية بأنها "نمرٌ من ورق"، فردَّ عليه الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف (1894-1971): "نعم، نمرٌ من ورق، ولكنْ بأنيابٍ نووية".
هذا الإدراك، وهذه الواقعية لدى خروتشوف، جعلاه يتبع سياسة "التعايش السلمي" مع العالم الرأسمالي وزعيمته الإمبريالية، الولايات المتحدة الأميركية، محاولًا تجنّبَ "سباق تسلح" كان يدرك أنه لن يكون إلا إنهاكًا للاتحاد السوفياتي ومواردِه، وتعطيلًا لمسيرة إعادة الإعمار، فضلًا عن "مسيرة البناء الإشتراكي" فيه.
لا شكَّ في أنَّ إيران تعي هذا الفصل من التاريخ القريب، وتعرف جيّدًا أن إسرائيل لها "أنيابٌ نووية"؛ وتدرك أيضًا أنَّ الغرب بكلّ طاقاته وموارده يقف وراءَ الدولة الصهيونية، خصوصًا عندما تتعرض لتهديدات وجودية، وأنَّ دولةً بالحجم الإيراني غير قادرة على أن تخوض مع هذا الغرب سباق تسلّحٍ عجز الاتحاد السوفياتي، وبجانبه المنظومة الاشتراكية وحلفاؤهما في العالم، عن الفوز في نهاياته.
إن امتلاك السلاح، مهما كانت فاعليته، ليس هو الأمر الحاسم، بل القدرة السياسية على استخدامه؛ وهنا تلعب "القدرة الكليّة" للدول، الدورَ الأكثرَ حسمًا في اتخاذ القرار السياسي، حيث تتشابك في تحديد تلك القدرة، عناصر الثروة والاقتصاد والتنمية والاستقرار السياسي والتماسك الاجتماعي ومتانة الجبهة الداخلية، وغير ذلك، فضلًا عن التحالفات ومدى صلابتها وصمودها وتحملها للنتائج. وفي الحالة الإيرانية، فإن تلك العناصر، إما مفقودة وإما مهزوزة، ويستطيع الغرب أن يعرّضها لمزيد من الاهتزاز.
وإذا كان ثمّةَ ترويجٌ لبناء شراكةٍ أو تحالفاتٍ لإيران على المسرح الدولي، وتحديدًا مع روسيا أو الصين، فإنَّ المعضلة التي ستواجه إيران في تطوير تلك الشراكات وتحويلها إلى تحالفات حقيقية تدوم طويلًا، هي مبدأ "تصدير الثورة الإسلامية"، فالشرق لا يقلُّ رفضًا عن الغرب لهذه السياسة؛ ومن هذا المنطلق، فإنَّ مثل هذه التحالفات ستبقى قلقة ومشكوكاً في متانتها إذا لم تتخلَّ إيران عن تجارتها العقائدية وتعود إلى حجمها كلاعبٍ أقل من المتوسط بين الكبار.
في المحصّلة، فإن تلميح إيران إلى إمكان تغيير "عقيدتها النووية" والذهاب إلى صناعة القنبلة الذرية لا يمكن أن يضعها على خط السباق مع الغرب، حتى لو أُتيح لها التخلص من العقوبات واستخدام كل مواردها؛ فالقنبلة النووية الإيرانية، إذا ما صُنّعت، يمكن أنْ تشكّلَ خطوةً متواضعة للّحاق بجارتها باكستان، وتقويةً لنفوذها في القوقاز وآسيا الوسطى، وردعًا لتركيا، وتخويفًا للعرب، لكنّها لا ترتقي بها أبدًا إلى مستوى الردع أو التوازن مع الغرب و"محميته" إسرائيل، لأنها ستكون سلاحًا مأزومًا برد الفعل النووي للخصوم.
إذن، لماذا الخشية من اِمتلاك إيران قنبلة نووية؟
باختصار، يكمن ذلك، في الدرجة الأولى، في أخطار انتشار التقنيات النووية في العالم واحتمال وقوع الأسلحة النووية التكتيكية الصغيرة، التي يسهل نقلها وتهريبها، بِيَد جماعاتٍ إرهابية متطرفة، خصوصًا عندما تمتلكها أنظمةٌ تُعدّ "مارقة"، أو مجتمعاتٌ غيرُ مستقرة، أو دولٌ غير قادرةٍ على تحقيق الأمان النووي، وكان ذلك من أخطر التحديات التي واجهها الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفياتي؛ وعزّز هذه التحديات والأخطار في ما بعد، نشاط تنظيم "القاعدة" وحوادث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).
يُضاف إلى ذلك ما تنص عليه معاهدة منع الانتشار النووي من التزاماتٍ على الأطراف الموقّعين؛ وهنا تقتضي الإشارة إلى أنَّ مسؤولية روسيا والصين وفقًا للمعاهدة، بالإضافة إلى ما تفرضه مصالحهما، هي منع حصول أي دولة جديدة على سلاح نووي، وإنهما لا تستطيعان التخلي عن هذه المسؤولية، ولا التضحية بالمصالح، مهما بلغ "تحالفهما" مع إيران.
أما الهدف الثاني، أي "إخراج الأميركيين من المنطقة لتتولى دولها الأمنَ بنفسِها"، فإن إيران، وإن استطاعت أذرعها المساهمة سابقًا بشكلٍ ثانوي، إلى جانب مقاوماتٍ رئيسية لا ترتبط بها، في إخراج القوات الأميركية من دولٍ مجاورة كانت تنوجد على أراضيها بصفتها قوّاتٍ محتلة بعد أن غزتها بريًّا بتسهيلات إيرانية، فهي لن تستطيع إخراجها من دولٍ ذات سيادة عقدت معها اتفاقاتٍ عسكرية وأمنية وأتاحت لها أن تقيم فيها قواعد دائمة أو منحتها تسهيلاتٍ لأغراض الدعم والإمداد (لوجستية)؛ كما إنها، أي إيران، لا تستطيع إخراج الولايات المتحدة الأميركية من المياه الدولية، ولا أنْ تمنعَ الصواريخ الأميركية والطيران الأميركي من إصابة أي هدفٍ في المنطقة.
هذا في الشق العسكري، أما في الشق السياسي القائم عليه والمتعلّق بـ"تولّي دول المنطقة أمنَها بنفسِها"، ويعني بالمفهوم الإيراني نظامًا إقليميًّا للأمن في الخليج، فإنَّه يتطلب أولًا ثقةً متبادلةً وعلاقاتٍ طيبةً ووئامًا بين الشعوب يقوم على إزالة الضغائن، أو على الأقل عدم النفخ في رمادها أو صب الزيت على نيرانها؛ وذلك لا يمكن إنجازه إلّا بمصالحةٍ تُبحر في عمق التاريخ وتُبدِّل مناهجَه التعليمية وتصوغ مفاهيمَ حديثةً للتربية الوطنية؛ وهو أمرٌ لا يزال في طور الوهم.
إن هذا الشق لا يمكن تحقيقه بين طرفين، أحدهما يسعى الى تثبيت الدولة الوطنية واستقرارها، وآخرُ يعتبر حدود تدخّله بامتداد الطائفة التي يدّعي تمثيلها، أينما وُجدت؛ كما لا يمكن الركون الى هذا النظام في ظلِّ أطماعٍ توسعية وأحلامِ هيمنةٍ امبراطورية وتهديداتٍ عنصرية تتكرر بين الحين والآخر. وبالطبع ليس في ظل تمييزٍ وتحريضٍ طائفيَّيْن، مارسهما ولم يبرأ منهما طرفا النزاع، على حدٍّ سواء.
في العودة إلى التحالفات التي يُروَّج لها، فإن دول المنطقة التي تقصدها إيران في النظام الإقليمي بشكلٍ رئيسي، أي دول مجلس التعاون الخليجي، تسعى بشكلٍ موازٍ الى تطوير علاقاتها وشراكاتها مع روسيا والصين وبلغ بعضها في ذلك مراحلَ متقدّمة، وهو ما سيدفع هذين الحليفَين المحتملَين لإيران، إلى الدفاع عن مصالحهما في المنطقة؛ وقد يفجّر ذلك، في لحظةٍ ما، خلافاتٍ بينهما وبين إيران، إذا ما تمادت في سياسة نشر الاضطرابات وزعزعة النظم القائمة على أساس مبدأ تصدير الثورة الإسلامية، الذي سيدفع بدوره كل التناقضات الثقافية والدينية والتاريخية بين إيران وروسيا والصين إلى الواجهة.
لكي تكون إيران دولةً طبيعية في المنطقة وتحظى بتحالفاتٍ في بيئتها الطبيعية المجاورة والمحيطة بها من كل جانب، عليها أن تتخلى عن عقيدتها السياسية في تصدير الثورة، وأن تُقرَّ بمفهوم الدولة الوطنية وتحترم سيادة الدول وولايتها على مواطنيها، لا "ولاية الفقيه" عليهم؛ وأن تكفَّ عن أحلام التوسع الامبراطوري، وألّا تتجاوز حجمها الطبيعي الذي لا يحق لأحد أن ينكره عليها.
وفي الموضوع الفلسطيني، عليها أن تصطف خلف مبادرة السلام العربية وحل الدولتين، وأن تقف على مسافةٍ واحدة من جميع الأطراف وتدعم الوحدة الوطنية الفلسطينية، بدلًا من تعميق الانقسامات واستثمارها بما يخدم مشروعها الطائفي من خلال السعي الى إيجاد تنظيمات "شيعية" مسلحة في الساحة الفلسطينية، أو تشجيع السياسات الهادفة إلى تجاوز الشرعية الفلسطينية وخلق بديلٍ من منظمة التحرير الفلسطينية يدمّر المكتسبات التي حققها الفلسطينيون بدمائهم، أو في "أحسن" الأحوال، إلى الاستيلاء على المنظمة وتحويلها إلى واجهةٍ للسياسة الإيرانية ومنبرٍ عدَمي يرفضه العالم؛ وكذلك ألّا تُروّجَ لخطابٍ يخدع "حلفاءَها" ويدفع شعوبنا إلى ما يشبه الانتحار، ثمّ تبلع وعودها بـ"تدمير اسرائيل في سبع دقائق" وتنتظر الصفعات الإسرائيلية لتقرر ما إذا كانت سترد عليها "بشكلٍ مدروس"، أو لا ترد.
*كاتب عراقي