السّفير د. هشام حمدان*
دولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ نجيب ميقاتي المحترم
رئاسة الحكومة- بيروت
دولة الرّئيس،
تحية طيّبة وبعد،
يستمرّ البحث عن حلّ دبلوماسي للحرب الجارية في لبنان، يستمدّ قاعدته من القرار 1701، بعيدا عن اتّفاق الهدنة. ترسّخ العقل اللبناني العام والرّسمي، إلى حدّ كبير، على القرار1701، ونجحت لعبة طمس اتّفاق الهدنة لعام 1949. ولهذا، يشرّفني أن أرفع لدولتكم هذا الكتاب، نيابة عن عشرات ألوف المواطنين اللّبنانيّين المتطلّعين بتصميم وعناد، إلى تحقيق العدالة للبنان وشعبه، بعد كلّ هذه السّنوات من المعاناة والتّضحيات، الأمر الذي يستوجب بين أمور أخرى، إحياء اتّفاق الهدنة ليس في عقل اللّبنانيّين فحسب، بل أيضاً على المستوى الرّسمي الحكومي.
لبنان يشهد أحد أفظع المشاهد المأساويّة في تاريخه الإستقلالي مع تمدّد الحرب الإسرئيليّة عليه جوّا وبحرا. تتزايد كلّ يوم أعداد اللّبنانيّين الذين يقتلون، أو يجرحون أو يصابون بعاهات دائمة. تتزايد المباني السّكنيّة المدمّرة تدميراً كاملاً، سواء في المدن أو في القرى. وتتزايد أعداد المشرّدين داخليّا أو خارجيّا. تتدمّر البنى التّحتيّة، وتصاب الآثار التّاريخيّة. كلّ ذلك، وسط إصرار جانب من اللّبنانيين على إنكار هذا الثّمن الباهظ الذي يدفعه الشّعب اللّبناني من دمائه، وكرامته الإنسانيّة، وجنى عمره، واستمرار الحديث عن تحقيق الإنتصار، بحجّة إفشال مخطّط العدو!
يأتي هذا المشهد المأساوي، استكمالا لمرحلة طويلة من الشّعارات المرتدية ثوب "المقاومة"، والتي استمرّت منذ اعتماد اتّفاقيّة القاهرة عام 1969، فغيّبت دور الدّولة الحصري وفقاً للقانون الدّولي، ونظام ميثاق الأمم المتّحدة بحفظ السّلامة الوطنيّة، وقيادة البلاد لممارسة واجبها كدولة مؤسّس في الهيئة الدّوليّة محبة للسّلام، وفرضت عليها التّنازل عن سيادتها الوطنيّة، وحقّها الحصري باعتماد قرار الحرب والسّلم. هذا الأمر، أدّى إلى الحرب الأهليّة المريرة التي استمرّت حتّى عام 1990، والتي حملت معاناة لا توصف لأهل البلاد.
تغيّرت المعطيات والظروف الدوليّة منذ ذلك الحين، واختلفت المصالح. انتهت الحرب الباردة. وانتهت الحرب الأهليّة. وتمّ توقيع اتفاق الطائف في المملكة العربية السّعوديّة. انهار الاتحاد السوفياتي، وتحوّلت الولايات المتحدة إلى القوّة الأعظم في العالم. لكنّ لبنان ظلّ سجين هذه الشعارات المرتدية ثوب "المقاومة". انتهت "المقاومة الفلسطينيّة"، وبدأت "المقاومة الإسلاميّة". "المقاومة الإسلاميّة"، ليست مقاومة من أجل فلسطين العربيّة، بلّ هي ظاهريّاً، مقاومة جهاديّة لتحرير القدس باسم الإسلام، وهي واقعيّا، نموذج عملي لمفهوم تصدير الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة. صار لبنان ساحة حرب جهاديّة إسلاميّة، وإيديولوجيا، جديدة.
لم يكن لبنان طرفا في أيّة حرب ضدّ إسرائيل منذ عام ١٩٤٩، أيّ بعد توقيع اتّفاق الهدنة ذلك العام، وإثر الحرب التي شارك بها لبنان، إستجابة لقرار جامعة الدّول العربيّة عام ١٩٤٨. إلتزم لبنان اتّفاق الهدنة. ساد الهدوء والإستقرار على جانبي الحدود، وانصرف السكان إلى حياتهم الطبيعيّة. كانت تتمّ تسوية أيّة مشكلة تطرأ، في إطار لجنة الهدنة الأمميّة. سقط الأمن مع توقيع اتّفاق القاهرة عام 1969، ومن ثم اتفاقية ملكارت لعام 1973. يجهل الرّأي العام الدّولي، والعربي، وحتّى اللّبناني، أنّ لبنان، لم يكن طرفا في أيّ من الحروب التي شنّتها إسرائيل على أراضيه، منذ ذلك التّاريخ.
تمّ بعد توقيع اتّفاق الطّائف، إلغاء اتفاق القاهرة واتفاقية ملكارت لعام 1973. نصّ اتفاق الطائف، على نزع أسلحة كلّ الميليشيات في لبنان. لم يطبّق اتفاق الطّائف. ولم يسحب السلاح من مقاتلي "المقاومة الإسلاميّة". تحوّلت الحروب على الأراضي اللبنانية إلى حروب بين إسرائيل وهذه "المقاومة" المدعومة كليّا من إيران وسوريّة.
حصلت حروب عدّة بين إسرائيل وتلك "المقاومة"، كان من بينها حرب عام 1996. حصلت في حينه، مجزرة قانا التي على أثرها تمّ توقيع تفاهم نيسان عام 1996. هذا التّفاهم، قدّم اعترافا أميركيّاً بتلك "المقاومة" كقوى أمر واقع. كان الغرض من التفاهم، هو تحييد الأهداف المدنيّة عن القتال بين الجانبين. وافقت الحكومة اللبنانية آنذاك، على المشاركة في مراقبة الإلتزام بذلك التفاهم. تنازل لبنان مرّة أخرى عن سيادته الحصريّة على الأمن الوطني، وقرار السّلم والحرب في البلاد، لكن كان ذلك مغلّفا بمبادئ القانون الدولي لجهة الحقّ في "المقاومة" ضدّ الإحتلال الأجنبي للأراضي الوطنيّة. كانت إسرائيل ما زالت تحتلّ أجزاء من جنوب لبنان والبقاع الغربي.
قامت إسرائيل عام 2000، بانسحاب إفرادي من المناطق التي تحتلّها. لم يقبل لبنان التّفاوض معها بشأن انسحابها. لكنّ لبنان لم يسترجع سيادته بعد ذلك. لم يرفع المطالبة باتّفاق الهدنة فقد كان يخضع للوصاية السّوريّة. أصرّت سورية ومعها إيران، على إبقاء الساحة اللبنانية مفتوحة لما يسمّى "مقاومة"، كأداة ضغط لتحقيق مصالحهما. احتجّت "المقاومة الإسلاميّة" أنّ إسرائيل لم تطبّق القرار 425 كليّا، إذ ظلّت تحتفظ بأراض لبنانيّة (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا). ردّت الأمم المتحدة على أنّ هذه الأراضي خاضعة للقرار 242 لعام 1967، إذ كانت إسرائيل قد احتلّتها في حرب عام 1967، لأنّها كانت تخضع للإدارة العسكريّة السّوريّة آنذاك. وعليه، إستمرّت الإشتباكات عبر الحدود، بين إسرائيل وهذه "المقاومة".
حصلت حرب عام 2006. فاعتمد مجلس الأمن القرار 1701، ووضع قواعد اشتباك بالاستناد إلى تفاهم نيسان، بعد أن فرض دوراً للجيش اللبناني، إلى جانب قوات الطوارئ الدولية اليونيفيل. قدّم القرار 1701 وسيلة لتسوية موضوع مزارع شبعا، وتلال كفرشوبا بتسهيل ترسيم الحدود بين لبنان وسورية. فما يتبع لسورية، يخضع إلى القرار 242 لعام 1967. وما يتبع للبنان، يفترض استكمال الإنسحاب الإسرائيلي منه وفقا للقرار 425. لم تقبل سوريّة بالتّرسيم.
في الواقع، هذان القراران (425 و 1701)، وكلّ القرارات الدّولية اللّاحقة بعد اتّفاق الهدنة، جاءت لتسوية وضعية نشأت بسبب حروب قوى الأمر الواقع وإسرائيل. فقد هدف القرار 425 إلى ضبط سلوك "المقاومة الفلسطينية". وهدف القرار 1701 إلى ضبط سلوك "المقاومة الإسلاميّة". شدّد هذان القراران، وكلّ القرارات، على سيادة لبنان، وحاولا دفع الدولة إلى استعادة سيادتها، والإمساك بقرار السّلم والحرب. لم تنجح الدولة ولا الجيش، في ضبط الأنشطة العسكريّة للـ"مقاومة" من على الأرض اللبنانية. استمرّت الأراضي اللبنانيّة مستباحة، في خدمة الأنظمة الخارجيّة وخاصّة إيران التي موّلت، ودرّبت، وأرست الفكر السّياسي الإيديولوجي لها.
لجأت هذه "المقاومة"، إلى افتعال حرب في 8 تشرين الأوّل/نوفمبر 2023 ضدّ إسرائيل، تحت عنوان وحدة السّاحات، وإسناد حماس في حرب غزّة. كلّ ذلك، لإفشال التّطبيع العربي مع إسرائيل. تطوّرت هذه الحرب إلى حرب شاملة كما يحصل حاليّا. أصبحت إيران شريكاً فعليّاً في هذه الحرب. ولا أحد يجهل أنّها تدير حرب "المقاومة" مباشرة.
وبدلاً من أن ترفع دولتكم صرخة اللّبنانيّين لاستعادة سيادة وطنهم، وحصريّة الجيش في الدّفاع عن الوطن، وحصرية الحكومة في اتّخاذ قرار السلم والحرب، فتطالبون بتنفيذ اتفاق الهدنة، جئتم تطالبون مجدّدا، بتنفيذ القرار 1701. لطالما احتجّ المسؤولون اللبنانيّون أنّ هذه "المقاومة"، تشكّل امتدادا للحروب الإقليميّة، ولاسيّما بين إيران وسورية وإسرائيل. كان لبنان خاضعا لسوريّة فلم يكن من الممكن منع هذا الأمر. لكنّ الأمر تبدّل، نحن نريد أن تدفع الحكومة لكي تكون هذه "المقاومة" تحت القانون الوطني وفي إطار استراتيجيّة دفاعيّة وطنيّة بقيادة الجيش الوطني. لا نريد أن يكون لهذه "المقاومة" حماية منفصلة في القانون الدّولي، لا نريد أن يكون لدينا دولتين، دولة اسمها قوى الأمر الواقع، والدّولة الرّسميّة أيّ الحكومة اللبنانيّة.
نناشدكم باسم الإحساس الوطني السّيادي، وبدماء الشّهداء الذين سقطوا دفاعا عن سيادة واستقلال وكرامة لبنان، أن ترفضوا القرار 1701، كقاعدة لحلّ دبلوماسي للحرب الجاري، وتطالبوا باتفاق الهدنة حصرا، لإنهاء الحرب مع إسرائيل. القرار 1701 يتضمّن الكثير من العناصر الإيجابية، لا نعارضه في المضمون، بلّ في بعده القانوني، لأنّه يكرس الإعتراف بقوى أمر واقع وبحاضنها الخارجي، على حساب السّيادة الوطنيّة. أمّا اتّفاق الهدنة فقد عقد بين حكومة لبنان، الممثّل السّيادي للبنان، وإسرائيل. وقد تمّ توقيع اتّفاق الهدنة بتاريخ 23 آذار/مارس 1949، عملا بقرار مجلس الأمن رقم 62 تاريخ 16 تشرين الثّاني/نوفمبر 1948، الذي اعتمده المجلس بالإجماع، عملا بالمادّة 40 من الفصل السّابع من الميثاق. أيّ أنّه ملزم، وليس خياريّا. وقد نصّت المادة الثامنة، على أنّ هذه الاتفاق لا يخضع للإبرام، بل يصبح نافذا فور التوقيع عليه. وأنّه يبقى نافذا حتى الوصول الى تسوية سلميّة بين الفريقين، ولا يجوز إلغاؤه إلّا بموافقة الشّركاء فيه: لبنان وإسرائيل ومجلس الأمن.
الصمت الحاصل تجاه هذا الموضوع، يشير الى أنّنا قبلنا بطمس هذا الإتّفاق لأنّه لا يمكن إلغاؤه. فصمت الحكومة اللبنانية وصمت الأمم المتحدة، وكذلك صمت إسرائيل، هو الذي يبقي اتّفاق الهدنة في الأدراج. ولكن، في حال عادت الحكومة اللبنانيّة وطالبت به، فإنّه لا يمكن لأيّ طرف أن يرفض. إسرائيل ملزمة به رغم أنّها كانت اعتبرت بعد حرب عام 1967، وقبول لبنان بالقرار 242، بأنّ اتفاقية الهدنة لاغية. رفض لبنان والأمم المتّحدة الموقف الإسرائيلي، واستمرّ اتّفاق الهدنة ساريا، وما زال فريق مراقبة الهدنة قائما.
تعتبر إتّفاقيّة الهدنة الإطار القانوني لضبط النزاع بين إسرائيل ولبنان. وأداة للحفاظ على الأمن والسّلم الدّوليّين. هذه الإتّفاقيّة تنظّم الحقوق والموجبات المتبادلة بين الجانبين، إلى أن يتمّ تحقيق السّلام بينهما. كما أنّها تخدم دور مجلس الأمن في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليّين. وقد جرى إقرارها وفقا للفصل السّابع من الميثاق الذي يتناول حصرا الإجراءات الواجبة في حالات تهديد السّلم والإخلال به، ووقوع العدوان. هذا يعني أنّ مجلس الأمن، لم ينظر إلى النّزاع من منطلق ثنائي بين طرفين، بل منطلق أممي يصيب الأمن الدّولي برمّته.
وبحسب المادّة 40، فإنّ مجلس الأمن له أن يعيد النّظر بقراره إذا انتهك أحد الأطراف هذا الإتّفاق، بغية اتّخاذ الإجراءات ضدّ الإنتهاكات وفقا للمادّة 39 من الفصل السّابع. لم يحصل ذلك عندما انتهك لبنان هذا الإتّفاق، بسبب ظروف الحرب الباردة. ولم يحصل مؤخّرا، بسبب القناعة الدّوليّة الواضحة أنّ لبنان وإسرائيل لم يخرقاه، فلبنان يخضع لقوّة خارجيّة تفرض واقعا عليه، وعلى إسرائيل.
آن لنا أن ندرك، وأن نعلن للعالم، أنّ: كفى جعل لبنان ضحيّة حروب، وتنافس المصالح في الشّرق الأوسط. هذا الوطن الصغير الذي سقط صريع التزامه الديمقراطيّة والحرّيّات العامّة، دفع أثمانا باهظة وما زال. المطلوب، بل المفروض، هو العودة الى اتّفاق الهدنة المعتمد وفقا للمادّة 40 من الفصل السّابع، واتّخاذ قرار جديد من مجلس الأمن مبنيّ على هذه المادّة، لفرض الإلتزام به. بمعنى آخر، يجب تعزيز قوّة الجيش بقوّة ضاربة من أجل وقف كلّ الإنتهاكات لاتفاق الهدنة. العلاقة مع الإحتلال الإسرائيلي يجب أن تتمّ من خلال ميكانيكيّة إتّفاق الهدنة، وليس من خلال ميكانيكيّة القرار 1701. تطبيق اتّفاق الهدنة يخرج العامل الإسرائيلي من لعبة المصالح على أرضنا، ويكشف حقيقة وأهداف اللّاعبين الآخرين.
مهما تكن شروط إسرائيل، فإنّ ترسيخ الهدوء والأمن في المنطقة الحدوديّة، وبين البلدين، يجب أن يتمّ من خلال ممارسة لبنان لسيادته، وبالتّعاون مع الأمم المتّحدة. إنّ الإلتزام بالقرار 1701 كما هو، قد يريح إسرائيل. لكنّ الأمر لا يتّصل بالإنسحاب الى شمال الليطاني فقط، ودخول الجيش ومراقبة تنفيذ القرار، بل هناك سؤال عمّا بعد شمال الليطاني، والداخل اللبناني. تطبيق القرارات الأخرى كالقرار1559، يحتاج الى شروط أخرى قد تؤدي إلى مفاعيل سياسيّة داخليّة مؤذية. لذلك يجب تطبيق اتّفاق الهدنة، لنقول إن لا علاقة تضامن للبنان مع حروب قوى الأمر الواقع، وأفكارها الإيديولوجيّة، وإنّ هذه القوى هي ميليشيا يطبّق عليها اتّفاق الطائف، الذي يمكن تسويته سلما بطرق أخرى.
في الواقع، إنّ التّاكيد على القرار 1701، هو إعادة اعتراف بقوى الأمر الواقع، وبما يتقرّر بشأن قواعد الإشتباك بين "المقاومة الإسلاميّة" وإسرائيل. هو غطاء دولي يبقي دور هذه المقاومة قائما، ويدمّر في آن، باقي أحكامه. القرار يتحدّث عن سيادة لبنان، ثم يعترف بقوى الأمر الواقع، ممّا يخالف مفهوم السّيادة. هو يطلب تنفيذ القرار 1559 بسحب أسلحة "المقاومة"، ثمّ يمنحها اعترافا بإمكانيّة استخدام سلاحها ضمن قواعد اشتباك قائمة على تفاهم نيسان. وجود الجيش، وتعزيزه، لا يعنيان تحقيق سيادة لبنان. فالجيش هنا، سيخضع إلى مراقبة دوليّة، بلّ وإسرائيليّة، كما تطالب إسرائيل، وليس إلى مراقبة الحكومة.
لا يستند القرار 1701، إلى قواعد ميثاق الأمم المتّحدة بشأن حفظ الأمن والسلم الدّوليّين. فميثاق الأمم المتحدة يعني الدّول الأطراف فيه. لا يوجد في ميثاق الأمم المتحدة، أحكام تشرّع العمل العسكري لقوى ميليشياويّة خارج الدّولة. لقد اجتهدنا كثيرا في تسعينيّات القرن الماضي لأن نحمي "المقاومة" بحجّة الحقّ الفطريّ للشّعوب بمقاومة الإحتلال الأجنبي للأراضي الوطنيّة، معتمدين سابقات المقاومة ضدّ الإستعمار. أمّا خارج هذا الإطار، فقد نحت الأمم المتّحدة وبجهود حثيثة من الولايات المتّحدة والغرب، إلى وصف الميليشيّات المسلّحة على أنّها حركات إرهابيّة. لذلك، فإن القرار 1701، الذي يتحدث عن قواعد اشتباك مع "المقاومة في لبنان" لا يستند إلى أيّة مادة من الميثاق. فلا هو تسوية سلميّة بين لبنان وإسرائيل وفقا للفصل السّادس، وليس إجراء زجريّا وفقا للفصل السّابع. هو إجراء صنعه واقع قوّة الولايات المتّحدة، بغطاء من الأمم المتّحدة، يستكمل تفاهم نيسان لعام 1996. تمّ هذا الأمر، إعترافا من الولايات المتّحدة، بأنّ هذه "المقاومة" ليست مجرد ميليشيا، بل هي ذراع عسكري للحرس الثّوري الإيراني.
القرار 1701 يعني الفريق الذي كان يتقاتل. هو يحلّ إشكاليّة التّعاطي مع قوى الأمر الواقع، ولا يتصل بمشكلة في العلاقات بين لبنان الدّولة واسرائيل. والتّأكيد على هذا القرار، يعني أنّ مستقبل ما يسمّى مقاومة، لم يحسم بعد. أيّ أنّ دور هذه المقاومة المرتبطة بايران، لم ينته. كما يعني استمرار تدخّل إيران في الملف، وفي الشّؤون اللّبنانيّة. هو يشكّل اتّفاقا ضمنيّا رديفا لاتّفاق القاهرة، يكمّل تدمير السيادة الوطنيّة للبنان. وسيضع عودة الأخوة الشّيعة إلى قراهم، تحت مراقبة إسرائيل، وسيشكّل عاجلا أم آجلا، حالة صدام ستعيد الحالة إلى الوراء.
ما يعنينا في لبنان هو اتّفاق الهدنة، المبني على موضوع السّيادة، وعلى التزامنا بالقرارات الدّوليّة بشأن القضيّة الفلسطينيّة. يجب أن نعرف حقوقنا ونطالب بها كي لا نخسرها. ما يحدّد العلاقة بيننا وبين إسرائيل، هو اتّفاق الهدنة الذي علينا تطبيقه. نحن انتهكنا هذا القرار عندما قبلنا ولو إكراها، باتّفاق القاهرة عام 1969. فاذا نحن لم نؤكّد على هذا الإتّفاق الآن، يعني أنّنا تنازلنا عن الحقوق الوطنيّة التي منحنا إياها هذا الإتّفاق. إنّ التصميم على القرار 1701 وليس اتّفاق الهدنة، لا ينال من سيادة لبنان، وعدم تعزيز دور الدّولة الحصري في قرار الحرب والسّلم فحسب، بل يتجاهل الحدود المعترف بها دوليّا، التي يؤكّد عليها اتّفاق الهدنة، ويرسم خارطة جديدة للعلاقات مع إسرائيل. وبالتّالي، سنضطر إلى فتح بازار التّفاوض من جديد مع إسرائيل على حدودنا، وعلى علاقاتنا معها في أيّة ترتيبات سلام قادمة.
اتّفاق الهدنة، ينصّ على الحدود المعترف بها دوليّا بين فلسطين ولبنان. حدّد اتفاق الهدنة بوضوح كامل، وبموافقة صريحة من الجانب الإسرائيلي، أنّ الحدود المعترف بها دوليّا بين لبنان وفلسطين، هي الحدود المعتمدة رسميّا، بين لبنان وإسرائيل. أمّا القرار 1701، فيضع خطّا أزرقا يدفع لإعادة ترسيم للحدود. هذا ما حصل في عمليّة ترسيم الحدود البحريّة التي استندت إلى تفاهم نيسان والخطّ الأزرق، وليس على الحدود المعترف بها دوليّا وفقا لاتّفاقيّة الهدنة، فولّدت تلك الخسارة الكبيرة في مياهنا الإقليميّة. لا يجب القبول أبدا بإعادة ترسيم للحدود، فإذا أصرّت إسرائيل على ترسيم جديد، يمكن اللّجوء الى محكمة العدل الدّوليّة وفقا للمادة 36 من ميثاق الأمم المتّحدة، ليس للتّرسيم، وإنّما لإظهار الحدود عبر آليّة قانونيّة دوليّة معدّة لهذا الغرض.
كما سنشهد قريبا مشاريع دول عربيّة أخرى للسّلام مع إسرائيل. وسنشهد ضغوطا على لبنان للسّير قدما في عمليّة السّلام. الإنتقال إلى هذه المرحلة الجديدة، يبدأ بالعودة إلى اتّفاق الهدنة، لا للقرار 1701. هذا الإتّفاق، وضع لنا حقوقا ثابتة ولاسيّما بشأن حدودنا البرّيّة، كما أنّه يحمي بلدنا من تلك الضغوط لبناء سلام بشروط الرّابح والمنهزم. نحن لم ننهزم، ولسنا في حرب. نحن في حالة هدنة لا تناقش حقوقا لمنتصر، وأثمانا يقدّمها منهزم. مثل هذا الموقف سيفسح بانتخاب رئيس جديد، وتشكيل حكومة جديدة، تنقل بلدنا الى مرحلة الشّرق الأوسط الجديد.
الإصرار على تنفيذ القرار 1559 محقّ لكنّه لا يرتبط بالقرار 1701. فهو قرار مستقلّ يمكن المطالبة دائما بتنفيذه. لكنّنا نعتقد أنه يستحسن الإصرار على تنفيذ اتّفاق الطّائف الذي يفرض نزع سلاح الميليشيات، وليس على القرار 1559. هذا إضافة إلى المباشرة بإعداد حلّ وطني يضمن نزع سلاح "المقاومة"، ودمجها في خطّة دفاعيّة وطنيّة تعزّز مناعة الوطن، ضمن المسار الشرعي الدّولي. وفي حال حاجتنا لوجود قوّات دوليّة لمساعدة القوى الأمنيّة اللّبنانيّة في تطبيق الإتّفاق، فإنّه يمكن للبنان أن يطلب تحت عنوان حاضن للبنانيّين هو بناء السّلم بعد النّزاع، الذي أقرّه مجلس الأمن، بناء على تقرير أمين عام الأمم المتّحدة عام 1994. إنّ التّوجّه نحو القرار 1701، يعني عرقلة مثل هذا التّوجه، بلّ يعني أنّ دور الدّولة هو خدمة الأمن لصالح إسرائيل، وليس لصالح الإستقرار الأمني بين الجانبين. وهو بشكل مؤكّد، لا يحقّق الأمن والسّلم الدّوليّين، لا في الشّرق الأوسط، ولا في العالم.
إنّنا نرى ضرورة أن لا يكون اتّفاق الهدنة موضوع مناقشة وجدل، لأنّه قاعدة حقوقنا ومصالحنا الوطنيّة، خصوصا في وجه إسرائيل والمجتمع الدّولي. كما أنّ المطالبة باتفاق الهدنة ليس له أيّ بعد حزبي، أو سياسي، أو مذهبي، أو مناطقي، فالحديث عنه يحمل فقط، بعدا وطنيّا.
دولة الرّئيس،
التّمسّك بالوطن، يظلّ حارس الهويّة. فالأفكار والمصالح تتبدّل. سادت مصالح خلال الحرب الباردة، لكنّها تغيّرت بعد انتهائها. اختلفت الأولويّات، والتّحالفات، وأساليب التّعاون، والأهداف. طغت الآن العولمة من خلال المصالح الإقتصاديّة والماليّة، فوجب الخروج من الأفكار القديمة، كي يمكننا فعلا، فهم الواقع الحالي، وبالتّالي تمكيننا بدقّة وواقعيّة، تحديد سياساتنا الوطنيّة العامّة التي تستجيب للعولمة. ألتّاريخ، ضرورة لربط تسلسل الأحداث وليس للبقاء فيه.
لا يجوز الإستمرار برسم السّياسات والأهداف، إستنادا إلى شعارات، وبيانات، ومواقف إيديولوجيّة، أعلنت في الماضي. ما زلنا نسمع من المؤرّخين، والسّياسيّين، وأصحاب الفكر الإيديولوجي، تعليقات ومواقف، لا تثبط الهمم وتدفع البوصلة بطريق الماضي فحسب، بل تستمر بالإستهانة بالهويّة الوطنيّة، وتسلخ فكر مجتمعنا عن الواقع القائم. العالم تبدّل، ونحن نصرّ على البقاء في الماضي. نغرق في بحور الدّم، والخراب، لأنّنا مصرّون على أن الماضي، هو الدرب إلى المستقبل. سقطت منذ أوائل التّسعينيّات، الأفكار الإيديولوجيّة، وتبدّلت مصالح الدّول بفعل المتغيّرات التي حصلت. غير أنّ المؤثّرات المتوارثة في مجتمعنا، جعل ما نختزنه جزءا من التكوين النّفسي الذي يطبع أشخاصنا. وعليه، فإنّ من غير المستبعد أن تثور هذه الموروثات مجدّدا، لتدفع بنا إلى حرب أهليّة جديدة. لم تكن الظّروف الإقليميّة، والدّوليّة مناسبة لأيّة مواجهة مع "المقاومة". لكنّ كلّ شيء تغيّر ويتغيّر سريعا. نحن نتطلّع إلى أهل المقاومة لسماع نداء أهلهم، والعودة إلى الوطن والدّولة. لا عودة إلى ما قبل 8 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023. من الضّروري أن ندرك جميعا ذلك بوضوح. كلّ تأخير في دفع الوفاق الأهلي، سيدفع بالنّاس إلى الإنتفاضة ضدّ الخوف من سلاح "المقاومة" فيفلت زمام الأمور.
بكل احترام
* ألسّفير حمدان دبلوماسي لبناني منذ عام 1978. شغل منصب سفير لبنان في الأرجنتين (2000-2013) والمكسيك (2013-2016). وشغل منصب نائب مندوب لبنان الدّائم لدى الأمم المتّحدة والوكالات الدّوليّة المتخصّصة بين 1987 و1999 (جنيف-لندن-نيويورك). مثّل لبنان في عشرات المؤتمرات الدّوليّة، وفي المناقشات المتعلّقة بالقضيّة الفلسطينيّة، والحالة في جنوب لبنان، ومواضيع حقوق الإنسان، وفي إعداد المعاهدات والإتّفاقيّات الدّوليّة مثل قانون روما للمحكمة الجنائيّة الدّوليّة، والإتّفاقيّات المتّصلّة بالإرهاب، ومعاهدة بازل للتّحكم بحركة النّفايات الخطرة عبر الحدود وغيرها. كما ترأس اللجنة الأولى لمجلس التّجارة والتّنميّة التي أقرّت دمج مفهوم التّنمية المستدامة بنظام ومهام المجلس.
دكتور دولة في القانون الدّولي منذ 1988. كاتب وباحث ومحاضر له أكثر من 12 مؤلّفا، وعشرات المقالات والأبحاث والدّراسات. يعد موسوعة عن تطور العلاقات الدولية منذ الفينيقيين وحتى تاريخه. حاضر في جامعات ومؤسّسات أكاديميّة في نيجيريا، جنيف، لندن، ألأرجنتين، ألمكسيك ولبنان.
باحث زائر في جامعة أوستن في تكساس (2019-2022). ومؤسّس الهيئة الوطنيّة من أجل العدالة للبنان وشعبه، والمركز اللّبناني لتعزيز العلاقات العربيّة الأميركيّة اللّاتينيّة، والجمعيّة اللّبنانيّة لبناء السّلام والتّنمية المستدامة.