الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"رقص على وتر حزين" للمغربي عبد الله صاريح: غنائيّة احتفاءً بالقضايا

أحمد الشيخاوي
"رقص على وتر حزين" للمغربي عبد الله صاريح: غنائيّة احتفاءً بالقضايا
"رقص على وتر حزين" للمغربي عبد الله صاريح: غنائيّة احتفاءً بالقضايا
A+ A-

إن الغنائيّة التي تسم خطاباً شعريّاً ما، في الانتساب إلى تحقيب زمنيّ معيّن، محققة الدفق النفسي والفكري الذي يلاءم المرحلة، دون القطع مع تفاصيل الذاكرة، على نحو كلّي، أو إلغاء صور الآني،جرداً واقعياً، أو ترميزاً، بما يضع الممارسة في أغلفة العاجية والتعالي،كل ذلك، قد يترجم حقيقة التصالح مع الذات. أعتبر مجموعة "رقص على وتر حزين" للمغربي عبد الله صاريح، الصادرة حديثاً، عن جامعة المبدعين المغاربة، طبعة أولى 2019، تصبّ، في خانة المفذلك له، لاعتبارات كثيرة.

هذه المجموعة الواقعة في مئة صفحة من القطع المتوسط، وهي تلتزم بمثل هذه الغنائيّة صياغةً ومعنى، مراوحة بين اتجاهين: هذيانيّ، مدغدغ بجملة من معطيات الحلمية الواقية، وهامس بلغة نفسيّة بليغة، موغلة في فضح المكنون، وأخرى واعية،بيد أنها تقدّم معالجات اليومي عبر انفلاتٍ لا شعوريّ، يبصمه المتخيل، وبذلك تنسج ملامح الشعر في فوقيته وجبروته وسحره وجاذبيته الجامعة بين الفني والرّسالي.

يفجّر الديوان إرسالية، تمرّ عبر نافذة تكريم رمز من رموز الشعر الوطني والعربي، عبد الكريم الطبال، ناسك الجبل، كما هو معروف، والاسم الذي لا يمكن تصوّره إلا في حضرة الشعر، ممارسةً وسلوكاً وقس على ذلك منظومة ما تبقى من مفاهيم جمّة، ترفد في التصنيف المثالي للقصيدة، بوضعها فوق مستوى الحياة، وتعريفها على أنها عدل الجنون، إبداعياً.

في محطة صارخة بشحذ أدوات الذود عن قضايا العروبة الأكثر حساسية وأولوية، نطالع للكاتب، قوله:

[ قد سئمنا نوماً ثقيلا

وعقولاً ثكلى وقلباً جبانا

وانسج من البطولات بنوداً

كانت دوماً مظفّرة ألوانا

وارسم على جبين المعالي

نصراً واكتب تاريخاً لـ "قانا"

فتى القدس بدد الظلام

طال في الظلام غفانا](1).

يستثير هذا المقطع حمولة نفسية، تؤطّرها خلفية الانتماء، وهي تزخر بمعاني اتّقاد الحسّ الفردي تجاه القضية الفلسطينية، بوصفها أمّ قضايا العروبة، وأعرقها خصوصية وتاريخاً وثقافة.

بلغة تزهد في الأقنعة، مثلما اقتضاها السياق، أميَل إلى الإنشائية، لا تخون في محاولات وضع الإصبع على مَواطن العلّة والخلل، ومن ثم هذا الرّجم الذي ينعت بالتقاعس وموت الضمير والاستسلام المبطّن بسبات أبدي يشبه الموت.

نقرأ له، كذلك، في مناسبة أخرى، هذا النزوع الرومانسي الذي يذكرنا بفروسية الشاعر في مختلف جبهات النضال، حياتياً كان أم إيديولوجياً أم إنسانياً، الخ...

يقول بنرجسية الراقص على إيقاعات رتابة الواقع، وتفاصيله المشوّهة المترهّلة المنقورة، مثل وتر يتوجّع لهويّة الكائن المصادرة بمعايير السلبية والنقصان:

[ سأوغل في الزمن...

هذا المجنون سيدفن ذاكرة الشعر

حشاشة الروح تبكي طيور الغسق

أنا الوله... التعب...

والذكريات المعذبة دفينة

دموعي نداء لوطني

أحاول نظم القصيدة...

تهرب مني؛ ألحقها

فلا أستطيع التحليق](2).

في الحقيقة، هي مرايانا الهاربة، نحن كائنات هذا العصر المثقل بماديته وجوره على إنسانيتنا لصالح الجنون الإيديولوجيّ، بأعتى منصّاته.

ثمة عجز مطبق، في محاولات البروز إزاء هذا المرايا، لأنها فاضحة ومترنّمة بأخطائنا التي ـــــ مغالطة ــــــ نمسحها في التاريخ، حتى ليغدو، هو المدان.

ولأن الطرح، إجمالاً، يرخي برؤوسه، من زاوية سلطة الإيديولوجيّ، مخفّفاً نوعاً ما، اصطدام الكائن، بمطلق حقيقة عجزة، كان من البديهي أن نتعرّى بالكامل في مجابهة الشعر، أيضاً.

هكذا نعلن استسلامنا أمام مرايا الشعر، الأقوى لحمة بفطرة وعاطفة ونواميس الكائن.

كما نقتبس له، أيضاً ما يفيد إخلاصه الجوهري لقدسية فلسطين وشعر القضية انتهاء، يقول:

[ عالم صغير ...حقير

يصغر شيئاً... فشيئاً

بالأمس هاجر الإنسان

بالأمس مات الإنسان

من سرق العالم ذات مرة؟

سرق مصر القديمة!

سرق بابل العتيقة..

سرق دمشق الجريحة..

قالت بغداد: اترك رماد المساء

واحتضن دجلة والفرات

ولا تكن ظالماً للأمهات

كن بلسما عطرا...

فهنا عاش الظلم ذات مرة

قلت لها: لن أكون ملكاً..

ولا رسولا...

سأترك رماد المساء

وأرحل بعيداً...لأعيش حرا](3).

شعرية تترك مساحة كافية ما بين الذات والعالم، وليس تتنفّس الحياة، إلاّ وقد شقّ جيوباً في عفوية التعاطي مع الشعر، ومجاراة إيقاعات مقامرته، ارتجالاً ودونما تكلف أو اصطناع.

فصل من الغنائية، تتدفق ألوانه، تبعاً لخرائطية تقمّطها الكنية، مرفوعة بلثغة السؤال الشعري الجادّ، ترثي الضمير العربي الخامل، تجاه قضاياه.

هامش:

(1) مقتطف من نص "فتى القدس" صفحة 7.

(2) من نص "الهاربة" صفحة 42.

(3) مقتطف من نص "من سرق العالم" صفحة 62/63.

*شاعر وناقد مغربي

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم