الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

"الثورة غداً تؤجل إلى البارحة": عنوان يجب تغييره

مصطفى علوش
A+ A-

كانت الثورة السورية قد بدأت، والتظاهرات السلمية انتشرت بعد درعا في مدن سورية أخرى، حيث خيّم الإرتباك العام على كل الإدارات الإعلامية في صحافة النظام.

كنتُ على رأس عملي كمحرر في القسم الثقافي في صحيفة "تشرين"، وكان لدينا في بحثنا اليومي عن مادة ثقافية هامش صغير لإنتقاء نوعية النشاطات الثقافية،

كان الزمن يشير إلى نهاية الشهر الرابع في عام 2011، وكان قد بدأ عرض مسرحي للأخوين ملص في منزلهما الواقع في حي العدوي في دمشق، وكان عنوانه "الثورة غداً تؤجل إلى البارحة".

في الطريق إلى حضور العرض كانت تدور في ذهني تلك التوجيهات الشفوية التي كانت تصل يومياً إلى إدارة التحرير ومنها منع نشر أي خبر يخص الحراك الشعبي والتظاهرات، ومنع نشر أي كلمة من عيار الثورة، أو أي مفردات قريبة منها. كنا نتعرف إلى تلك التعليمات من خلال ردود فعل أمين التحرير ومدير التحرير على موادنا المرسلة إليهما من طريق رئيس الدائرة.

كان عرضاً ممتعاً حمل أقصى ما يمكن أن يفعله عرض مسرحي يعرض في قلب دمشق.

في طريق العوة إلى المنزل كنتُ أتوقع أن يعترض السيد أمين التحرير على العنوان مباشرة، الذي يتضمن كلمة "الثورة". دونتُ ليلاً مقالتي عن العرض بأقصى ما أستطيع من تورية لايصال معاني العرض ودلالته.

في اليوم التالي سلمتُ مقالتي إلى رئيس القسم الثقافي الذي أرسله بدوره كما هو إلى أمين التحرير الذي طلبني بعد وقت قصير، وقال لي بنبرة احتجاج واضحة: يا مصطفى، المقال لا يمكن أن يمرّ بهذا العنوان، قلت له: يا أستاذ، إنه عنوان العرض. قال: لا يمكن أن يمرّ. أجبتُ: حسناً دقائق وأغيّر العنوان، وما يدل على كلمة الثورة في السياق.

جلست إلى طاولتي لأعيد تغيير العنوان، فمسحت "الثورة غداً" وأبقيت "تؤجل إلى البارحة" ورجعت إلى مكتبه. هكذا تمّ إمرار المقال ونشره.

في تلك الأيام من عمر الثورة لم نكن نُحسد على أعمالنا في صحافة النظام، ولا سيما حين كنا نشاهد أخبار الثورة ليلاً في بيوتنا من محطات عربية، وكان من ضمن شعارات المتظاهرين "الإعلام السوري كاذب". كان هذا الشعار صادقاً، ولا يزال. لكن، ليس كل من يعمل هناك كاذباً. لكنه العجز وحاجة البشر بالطبع إلى راتب شهري ليعيشوا ويبقوا على قيد الحياة البيولوجية.

كانت أياماً صعبة حقاً، حيث صار يعتبر كل صامت من المحررين معارضاً.

لقد كشفتنا الثورة. كشفتنا جميعاً وأظهرت إلى العلن كل المخبأ والمخفي من قناعات فكرية واصطفافات.

كان السوري المتظاهر أصدق تعبيرا عن السوريين، وكان الإعلام السوري ولا يزال يدار بعقلية أمنية عسكرية، فإعلام النظام بمختلف أشكاله في تلك الأيام دخل مرحلة الإجرام السياسي لا سيما في جانبه السياسي، حيث كان التحريض على قتل المتظاهرين علنياً، زوايا ومقالات تنشر يومياً تعتبر كل متظاهر مندسا، وكل من يقول لا هو محرض على هيبة الدولة.

في الجريدة نفسها كان لدينا اثنان من الموظفين يعملان مستخدمين، وكانا من طينة طيبة ونقية، الإثنان كانا مع الثورة، أحدهما كان يأتي ليحاورني وهامساً يحذرني من المخبرين في الجريدة.

لم يمض وقت طويل حتى اقتحمت عناصر الأمن العسكري الجريدة في وضح نهار من عام 2012 وطلبت الهويات من كل من صادفتهم إلى أن تمّ القبض عليهما. فغابا في سجون النظام.

هكذا كانت أيامنا في تلك الجريدة,

أما عرض التوأم ملص فكان حالة تعبيرية عن واقع سياسي مرعب. فالناس خائفون، مرتعبون، لكنهم في التظاهر اليومي كسروا حاجز الخوف.

كانت عيون المخبرين تلاحقنا، وتسجل علينا كل ما تستطيعه. كنا نسلم مقالاتنا كأننا نكتب مواقفنا من الثورة، حيث صار كل حياد في الكتابة أيضاً معارضة للنظام.

لاحقاً هرب الأخوين ملص من البلد وتحولت تلك المسرحية في فرنسا إلى فيلم سينمائي، أما أنا فبقيت حتى الشهر السادس من عام 2015 لأهرب بعدها إلى لبنان، فإلى تركيا واليونان... وصولاً إلى ألمانيا.

كانت كلماتنا في الصفحات الثقافية تضيع، وكنت أشعر باختناقها وهي تختبئ خلف ألف قناع هرباً من الرقيب.

"الثورة غداً تؤجل إلى البارحة"، كان حقاً لحظة صدق وجرأة وتأريخ لفنانين حاولا قدر الإمكان مواكبة حناجر المتظاهرين في مسرح ينتمي إلى الحرية.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم