السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

"غرق الحضارات" لأمين معلوف: السفينة تقترب من جبل الجليد، الجوقة تغنّي والشمبانيا فائضة في الأكواب

المصدر: "النهار"
غسان الحلبي
Bookmark
"غرق الحضارات" لأمين معلوف: السفينة تقترب من جبل الجليد، الجوقة تغنّي والشمبانيا فائضة في الأكواب
"غرق الحضارات" لأمين معلوف: السفينة تقترب من جبل الجليد، الجوقة تغنّي والشمبانيا فائضة في الأكواب
A+ A-
طالما كان وجهُ أمين معلوف وجهَ بحَّارٍ رحَّالة "ابن سبيل، وطنه القافلة وحياته أقلّ الرحلات توقّعاً. تسمع من فمه الكثير من اللغات وكلّ الصلوات ملك يديه" (ليون الأفريقي)، أقرضهُ الديَّان عقوداً بدَّدها في الأسفار، فعاش الحكمة في عواصم شتَّى، ورأى ما رأى من إرهاصات التحوُّلات. حملته المراكبُ إلى أعالي البحار، وأفكاره إلى عالَمٍ تتلألأ فيه أنوار الحضارات كلّها. في كتابه "غرق الحضارات" (غراسيه)، يستحضر معلوف، مدفوعاً بأسئلة مغمورةٍ بكلِّ التقمُّصات التي خبرها كاتباً متعدِّد الوجوه، فراديسه الأولى بعوالمها وأحلامها وآفاقها الإنسانيَّة البديعة، وكانت ملموسة حاضرة في الحياة، وإذ بها في الزمن عابرة هشَّة مندثرة.ها هو معلوف الآن فوق كاهله سبعون، بعدما استشعر لسنواتٍ، بإحساسٍ يسدِّده العقلُ وتُلهمُه البصيرةُ، "اختلالَ العالَم"، يتأمّل بانذهال المآلات المتشابكة المريعة التي اتّجه صوبها عالمُنا المعاصر بعيداً من الآفاق الواسعة المعهودة، بكلِّ الإمكانات التي لامسها وعاينها ودائماً كانت على وشك أن تكون العالمَ الإنسانيّ الفسيح. ها هو على يقينٍ من أنَّ المركبَ الكبير حامل الكلّ، ماضٍ برعونةٍ عشواء، بعد سماع طقطقة الحطام، إلى الغرق.كلّ ما كان الشغف يُشعله من تلك الفراديس الأولى في القلب والرؤى والطّموحات، تبدَّى عن اتّجاهات عكسيَّة مغايرة مناقِضة لما كان وكان يمكن أن يكون شأناً آخر على الاطلاق. يستعيد معلوف من تلك الفراديس ما هذَّب روحه بإنسانيَّةٍ راقية، وما ضاددها على الدوام من جنوح العالم نحو البربريَّة في العصر الذي امتلك الإنسانُ فيه كلّ ما يمكِّنه من المضيّ قـدُماً نحو تحقيق الأفـضل، لكنَّ الذي حدث ويحدث هو العكس على التَّمام (طالما تردَّدت هذه العبارة الأخيرة في الكتاب). هكذا، تصخَب الأمواجُ في ثنايا الكتاب ما بين أسربة الآفاق الصافية وجَلجلة الرّعود وصُولًا إلى الوقائع الصّلبة المبرِّحة الشاهقة كجبل جليديّ تتناثر من حوله شظايا الحضارات. يقـرّ معلوف بمشاعر الحنين إلى طفولةٍ عاشها في مصر حتى سنته الثامنة، وكانت والدته قد انتقلتْ إليها بعد شهر من ولادته في بيروت انسجاماً مع وضع عائليّ. هذه العودة إلى لمحات من سيرته تُستخدم عبر الكتاب كمؤثرات عميقة في حياته من حيث كونها مشاهدات عيانيَّة لواقعاتٍ وأحداثٍ كان لها في عصرنا، على فترات قريبة أو متباعِدة، تبِعات وتداعيات بالغة الدلائل على ما يراه ويتوجَّسه من رؤية حال العالَم ومساره في حالتَيه المتناقضتَين. الأولى: تصاعد هائل في التقدُّم التكنولوجي والعلوم والقدُرات في شتَّى المجالات، مقابل الثانية: تزايد ظواهر الوهَن والتهافُت في فكرة "الحضارة الإنسانيَّة" وإمكانات الانسجام بين وجوهها، وتفاقم حدَّة العصبيَّات "الهويَّاتيَّة" والانفكاك عن الآخَر، والتفريغ المعنوي لمصطلحات المرجع الأخلاقي، واستشراء واقع اللامساواة، والعديد من العوامل المؤشّرة على "انحرافٍ" مُقلِق ومخيف في سيرورة الأمم.كانت بلاد النيل مكاناً سمحاً لجالياتٍ ناشطة وفَّـرت بيئات "كوزموبوليتية" وأجواء تفاعلت فيها الحياة في مجالات الأعمال والتجارة والأدب والفـنّ والثقافة قبل تفاقم التوتّرات بعد...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم