الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

فوز أوغلو يعطي الأمل ويعِد بالتغيير

مهى سماره
فوز أوغلو يعطي الأمل ويعِد بالتغيير
فوز أوغلو يعطي الأمل ويعِد بالتغيير
A+ A-

صدقت التوقعات وفاز المرشح المعارض أكرم إمام أوغلو رئيساً لبلدية اسطنبول في الدورة الثانية بفارق كبير في الأصوات بلغ 800 ألف صوت وليس 13 ألفاً كالدورة الأولى. وهذا الفارق المهول عكس السخط الشعبي من محاولة السلطة الانقلاب على الديمقراطية وسرقتها. النتيجة أكدت المؤكد أن تصويت 31 آذار الفائت كان صحيحاً وشفافاً، وإن الضغوط التي مورست على اللجنة العليا للانتخابات والتسريبات عن وجود مخالفات وطعون كانت مفبركة.

انتخابات 23 حزيران تشكّل ضربة موجعة للرئيس أردوغان وحجب ثقة لسياسته الداخلية والخارجية، لأن التنافس لم يكن بين أوغلو ويلدريم بل مع أردوغان بالذات. وإذا استمرّ الرئيس في عناده وغروره ونهجه المستبد قد تؤدي التغيرات الطارئة إلى بداية النهاية لحكمه الطويل المستمر منذ 16 سنة.

خسارة اسطنبول تعني أكثر بكثير من مجرد خسارة رئاسة بلدية لأكبر مدينة تركية ومركز الثقل الاقتصادي، بل صفعة مدوية لحزب العدالة والتنمية وحرمانه من مصادر رئيسية للدعم السياسي والمالي. المدينة تستوعب ربع إجمالي الاستثمارات العامة وتمثل ثلث اقتصاد تركيا البالغ 748 مليار دولار. كما تؤمّن منبراً سياسياً لكل طامح في تمثيل شعبه وخدمة بلده. مسيرة أردوغان السياسية انطلقت من رئاسة بلدية اسطنبول في 1994، وهو القائل "من يفوز ببلدية اسطنبول يفوز بحكم تركيا". الإنفاق الإنمائي على المشاريع والبنى التحتية والخدمات العامة تبقي رئيس البلدية أيّاً يكن، على تواصل دائم مع الناس والناخبين.

إذا تمكّن أوغلو، كما يؤمل، من أداء مهماته بشكل جيد وأنقذ المدينة من الفساد المالي والاداري والسياسي وأعاد الديمقراطية إلى جذورها، يجد نفسه قريباً أمام منافسة أردوغان في زعامة المعارضة ورئاسة البلاد. أوغلو أمامه مهمات شاقة، وعليه أن يثبت نفسه في إدارة البلدية مع مجلس بلدي جميع أعضائه من حزب العدالة والتنمية باستثناء الرئيس. كما عليه النهوض بحزب الشعب الجمهوري ولمّ شمل الأحزاب الأخرى المعارضة، وتنظيم وتنسيق العمل بينها داخل البرلمان وخارجه، لأن للمعارضة فرصة الآن يجب أن تستغلّها. كما علينا مراقبة علاقته ومدى انسجامه مع الرئيس أردوغان. مبادرة أردوغان وتهنئة أوغلو بفوزه لفئة جيدة نأمل أن تحمل أكثر من مجاملات. أوغلو رحب بشكر أردوغان وأبدى استعداداً للتعاون والتنسيق معه لما فيه خير تركيا واسطنبول.

إنما في الحسابات السياسية تبقى انتخابات 23 حزيران هزيمة مدوية لحزب العدالة والتنمية وكأن تركيا على أبواب فجر جديد. وبكل المقاييس، صفحة جديدة قد فتحت، وبداية واعدة لأكرم إمام أوغلو قد انطلقت. الشخص المغمور على الساحة السياسية والمعارض الشاب الذي فرض احترامه وكسب عطف وتأييد معظم مواطني 39 قضاء في اسطنبول، ودخل معاقل وأحياء المدينة التي كانت محسوبة تقليدياً وتاريخياً على حزب العدالة والتنمية، شكّل نهاية الاسطورة التي تدّعي بأن الحزب لا يُخرق وأردوغان لا يُقهر.

وتوقف المحللون عند تصرف أوغلو وسلوكه اللائق وتقبله الخضوع إلى دورة ثانية بصدر رحب رغم إعلان فوزه في الدورة الأولى. التزامه الصمت ورفضه الانجرار إلى المهاترات والحملات الدعائية الرخيصة التي روّجت لها أبواق الدعاية القريبة من السلطة، واتهمته بأنه يوناني الأصل وعلى تواصل مع أثينا وله علاقة بالمنظمات الإرهابية. ترفّعه وعدم ردّه على هذه الحملات المشوّهة منحته قوة وتميّزاً في نظر الناخبين الذين طمأنهم بأنه "يرى الأمل والضوء في الظلام".

في المقابلة التلفزيونية التي جرت لأول مرة في تاريخ تركيا بين المرشحين، أظهر أوغلو كبرياء ورباطة جأش وثقة بالنفس ومهنية عالية ونهجاً جديداً في التعاطي مع الشأن العام بتركيزه على الأخلاق والقيم، والنزاهة في العمل السياسي ودولة القانون والعدل، وتشديده على الوحدة والجمع والتسامح بدل التفرقة والانشطار، رافعاً شعار الأمل والتغيير.

انتخاب أوغلو كشف وجود مجتمع مدنيّ حيّ ونَشِط وشبابيّ يتطلّع إلى التغيير وتحسين ظروف الناس المعيشية والإنسانية، وتأمين الخدمات من ماء وكهرباء وسكن لـ16 مليون نسمة يعملون ويعيشون في تلك المدينة الساحرة والجميلة، وليس الأغنياء ورجال الأعمال وأصحاب المشاريع العقارية والصناعية.

أوغلو استطاع حشد أكثر من 150 ألف شاب وشابة تطوّعوا لقيادة حملته الانتخابية التي اعتمدت على التواصل الاجتماعي واستعمال الشاشات الصغيرة. حشد طاقات عمرية مختلفة أمام صناديق الاقتراع وخاصة الشباب والنساء والمهنيين كان ملفتاً، ممّا يعني أن الأتراك يولون الانتخاب كواجب وطني وجدي لدرجة أن العديدين تركوا أشغالهم وتكبّدوا مشقّة السفر من وراء البحار للإدلاء بأصواتهم.

أوغلو في مقابلاته وحملاته تحدث عن بناء المستقبل ووعدَ بكثير من الكياسة والتواضع والوضوح بـأن الأمور ستتحسن وأن "كل شيء سيكون على يرام". دغدغ أحلام الشباب من الأجيال الصاعدة، وشدّ من عزائمهم للإيمان ببلدهم، فتبنّوه كمرشحهم والناطق باسمهم والمتألم لأوجاعهم والمتحدث بلغتهم وكأنه يروي رؤيته للمستقبل. مقارنته بغيره ساهم بالالتفاف حوله وكأن الآخرين يتحدثون بلغة الماضي وبكثير من الاستعلاء والعنجهية.

لهذا يعتبر بعض المراقبين أن معركة بلدية اسطنبول تحولت إلى معركة الوطن وليست رئاسة بلدية وأشخاص وأحزاب ومعارضة وموالاة. انتخابات 23 حزيران هي نقطة تحوّل وجسر عبور لغد أفضل وللأخذ بعين الاعتبار رغبات الأجيال الصاعدة وتطلّعاتهم لتجديد الإيمان بالديمقراطية والثقة بالعدالة.

انتخابات أوغلو أكدت تمسّك الأتراك بالنظام الديمقراطي والتعددي والذي أصبح في عهد أردوغان موضوع شكّ وتساؤل عند المجتمع الدولي وخاصة الأوروبي، بعد بروز توتر في علاقات أنقرة مع الغرب وحلفائه التاريخيين في الناتو.

تركيا في عهد أردوغان أصبحت رهينة نزواته الشخصية للسيطرة والزعامة الإقليمية والإسلامية. عهوده شهدت تقليصاً للحريات العامة التي هي أصلاً غير واسعة، وسجلّ تركيا في موضوعات الحريات الصحافية وحقوق الإنسان قاتم جداً، والدليل الأرقام الضخمة لعدد السجناء بعد العملية الانقلابية في 2016 والذي تقدّره مصادر الأمم المتحدة بـ55 ألف سجين رأي، وأكثر من 160 ألفاً صرفوا من وظائفهم في الإدارة والجيش والأمن والجامعات والقضاء والمدارس... هذا الصرف الجماعي التعسّفي وانتهاكات حقوق الإنسان زادا من النقمة الشعبية وغضب الجماهير في ظلّ حكم الطوارئ والتغييرات الدستورية التي منحت أردوغان سلطات واسعة ومنفردة وحوّلته عملياً إلى حاكم مستبد وديكتاتوري.

فوز المعارضة سيكون له انعكاسات وتأثير كبيران على حزب العدالة والتنمية الذي يعاني من الفوضى والانشقاق والقلق نتيجة تفرّد وتسلّط أردوغان بالرأي. ابتعاد شخصيات قيادية مثل الرئيس السابق عبدالله غل، ورئيس الوزراء، ووزير الخارجية السابق داوود أوغلو، والاقتصادي الكبير محمد شنشيه وغيرهم. وإذا كان الرئيس أردوغان يريد فعلاً إنقاذ حزبه من التشرذم والانشطار عليه التحرك سريعاً وتصفية خصوماته ومراجعة حساباته مع أقرب المقرّبين إليه. كما يجب على حزب العدالة والتنمية بحث أسباب الهزيمة لأن الحزب رغم المآخذ عليه، لا يزال أكبر أحزاب تركيا وأوسعها انتشاراً.

والمتغيرات الطارئة على الخارطة السياسية التركية تفرض على الرئيس رجب طيب أردوغان فرملة مزاجيته وانفعالاته غير المنضبطة وطموحاته العالية السقف والصعبة التحقيق. لأن نزوات أردوغان العثمانية ومعتقداته الإسلامية المحافظة أثّرت على صورة تركيا "كالنموذج" فأصابها الالتباس بفقدان الهوية الوطنية التركية. تبنّي أردوغان النموذج السياسي الإسلامي، تقرّبه وتبنّيه جماعات الإخوان المسلمين في قطر ومصر وتونس وليبيا والسودان والعراق وسوريا، تثير الجدل والخلاف إقليمياً ودولياً ومحلياً، ما جعل "النموذج التركي المعتدل والديمقراطي" يفقد جاذبيته. هذا فضلاً عن حدّة ردود الفعل السلبية التركية التي ترفض تدخله في شؤون الدول العربية وتتمسّك بمبادئ الجمهورية التركية القائمة على العلمانية والقومية الوطنية وحسن الجوار.

فوز أكرم إمام أوغلو جاء نتيجة سياسة أردوغان الذي جنى ما صنعت يداه، ولا يجب أن يلوم أحداً غير نفسه.

[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم