الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

حَبّة رمل في يد أب صالح: هكذا بدأْتُ المشوار

مارلين سعاده
A+ A-

اثنتا عشرةَ سنةً تفصلني عن ذلك التاريخ، يومَ دعتني شقيقتي التوأم أرليت سعاده أبي نادر للانضمام إليها في حلقة تلفزيونيّة تُعرَض مباشرة عبر شاشة تلفزيون "تلي لوميير"؛ ساعة ونصف الساعة من البثّ المباشر على الهواء مع الإعلاميّة جيزيل هاشم زرد. ساعة ونصف الساعة استعدنا خلالها العديد من الذكريات: ذكريات الطفولة في المدينة وفي القرية، ذكريات أيّام الدراسة، وأيّام الصِّبا، حياتنا الروحيّة... أساتذتنا، إنجازاتنا الصغيرة، زواجنا وأسرتَيْنا، ثمّ خوضنا مضمار العمل...

النصف ساعة الأخيرة خصّصَتْها العزيزة جيزيل للحديث عن روايةٍ بقيت منسيّةً ما يقارب العشرين سنة، يغطُّ أبطالُها في نوم عميق، إذ هي مدفونة داخل دُرْجٍ مع العديد من الأوراق والدفاتر... إلى أن حظيَت باهتمام أختي الصغرى ليليان سعاده، فطبعَتْها واختارت لها غلافًا، وجعلت منها كتابًا متكاملًا، استطعْتُ أن أقدّمَ بضعَ نُسَخ منه لعدد من الأصدقاء، وأتحدّث عنه من خلال الشاشة الصغيرة: قصّة "خيّ جيديوس"، ما إن تُباشرُ بقلب صفحاتها ويجري نظرُك كالماسح الضوئيّ على سطورِها، حتى تستفيق شخصيّاتُها الواحدة تلو الآخرى، تدعوك لترافقَها، تولّدُ لديك الحشرية لمعرفة المزيد عنها، تتابعُ حكايةَ كلٍّ منها بترقّب وشغف يدفعانك للمضيّ في كشف أسرارِها من دون توقّف... ولا تنتهي منها حتّى تدرك أنّك عايشتها ولامست واقعَها، وكأنّك كنت على صلة بها! هذا لسان حال قرّائها، وأنا بتُّ واحدة منهم، إذ تفصلني اليوم عن الصبيّة التي كتبَتْها - والتي كنتُها - أكثر من ثلاثين سنة.

انتهى اللقاء المباشر على الهواء، وبدأ لقاء جديد. غادرنا غرفة التصوير لنتوجّه إلى مكتب الأخ نور - مبدع "تلي لوميير" - ولم ترضَ جيزيل هاشم زرد أن أخرج من مكتبه إلّا بوعد: أن أكتب شيئًا للصغار. كانت قصّتي الأولى المصوّرة تحمل عنوان "كلارا"، دراما ميلاديّة، أعطيتُها اسم ابنة أختي، كلارا أبي نادر، لأنّها تحبّ التمثيل، فأهديتها القصّة ودور البطولة فيها لثقتي بموهبتها.

ولكن، قبل أن نصلَ إلى هذه المرحلة، كان عليّ عرضُ النصّ على الأخ نور، للحصول على موافقته. قد يكون الأخ نور نسي هذه القصّة، هو الذي استمع إلى آلاف القصص، منها ما كُتب خصّيصًا ليشكّل نواة لحلقة أو مسلسل تلفزيونيّ، ومنها ما كان واقعيًّا، إذ شاهدتُ مؤمنين متعبين من أثقال الحياة، يلجؤون إلى الأخ نور يلقون همومهم عنده طالبين النصح والعون... ولكن، إن نسي هو تلك اللحظات - لما في نفسه من مَيْل للفقر والزهد في الدنيا، وحتى في ذكرياته فيها، هو المكتفي بالماء والخبز زادًا، وكيسِ الخَيْش الخشن ملبسًا يستر بدنه، ويسير حافي القدمين – إن نسيَ هو فأنا لا أنسى، ولن أنسى، تلك الدمعة التي لمعت في عينه، ثمّ لمحتها تنحدر على وجنته، وأنا أقصّ عليه حكاية كلارا التلميذة الفقيرة، التي اشتهت رائحة الخيار في زاد رفيقتها، وكانت زوّادتها تقتصر، بشكل يوميّ، على الزعتر ولا شيء سواه. لقد كانت دمعته العطوفة الإشارة الإيجابيّة للمباشرة بالعمل. ولعلّ ما يميّز الأخ نور هو هذا الإيمان وهذه الثّقة بقدرة الإنسان على تحقيق أصعب الأمور، طالما تنبعث من القلب وتُقدَّم بحبٍّ.

مع "كلارا" بدأ المشوار. أخرج زوجي أنطوان سعاده الحلقة، وقدّمتُ أنا الفواصلَ بين مشاهدها، ومثّلَتْها كلارا ابنة أختي ورفاقُها في مدرسة Val Père Jacques التابعة للأب يعقوب الكبوشي. بعد كلارا بدأت أكتبُ الأقاصيص للصغار، ثمّ أقصّها عليهم بنفسي، لتُعرضَ ضمن برنامج "ألو ريتا" المخصّص للصغار، والذي تقدّمه ريتا عودة.

ألّفتُ خمسًا وعشرين قصّة، نصفها نسجْتُه من ذكريات عالمي الطفولي في القرية، فجاءت مشبعة بطيب ذلك الزمن وطيبة ناسه؛ والنصف الثاني مُعاصر، تناولتُ تفاصيلَه من واقع حياة أولادي، وحياة أطفال الزبائن الذين كانوا يقصدون متجر اللّعب الذي كنت أملكه وأديره قبل عملي في التلفزيون، ناقلةً طريقة لَعِبهم وهمومَهم وانشغالاتِهم، معوّلة على القيَم وانتصار الخير. هذه الأقاصيصُ حظيت لاحقًا باهتمام مؤسّسة ناجي نعمان للثقافة بالمجّان، إذ نالت، من بينها، قصّة "الكاهن ورجل الدين" جائزة المتروبوليت نقلاوس نعمان للفضائل الإنسانية للسنّة 2017، فطَبَعَت المؤسّسة مجموعةً منها ضمن كتيّب بعنوان "أبطال الأمس".

تابعْتُ الرحلة مع "تلي لوميير" لأكثرَ من سنتين، أُعدُّ البرامج للصغار والمراهقين، أقابلهم في مدارسهم، أرافقهم في مخيّماتم الكشفيّة، في الحقول والبراري والكنائس... أنقل للناس طُرُقَ عيشهم، يوميّاتِهم، وما يتمتّعون به من مواهب...

أيضًا كانت لي حلقات مع المرضى في المستشفيات، ومع العجزة المسنّين، وحلقات تحمل طابع الأعياد: عيد الميلاد، عيد الحب... والأخ نور يدعم كلّ خطوة من خطواتي ويباركها. عشت الفرح مع مَن قابلتهم، ظهورُهم على الشاشة كان يحمل لهم الكثير من الغبطة، فيقدّمون للناس أجمل ما عندهم.

ودارت الأيام دورتها، واضطرّتني ظروف الحياة إلى الابتعاد عن الشاشة، وعن "تلي لوميير". حملتني الأيّام إلى أماكن جديدة، نعِمْتُ بخيراتها وجمالاتها، ولكنّني لم أنسَ ذلك الزمن الذي كانت منه انطلاقتي، وأوّلُ شرارة لقصّة "خيّ جيديوس"، إذ نال الكتاب بَعدها تقديرَ رئيس "مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة" الدكتور سابا قيصر زريق، فتبنّته مؤسّسته وطبعته على نفقتها، بعدما حظي بعناية الصديقة روزين صعب رئيسة جمعيّة "لتكن مشيئتك" الخيريّة، التي اعتنت بإخراجه الفنّيّ؛ وجرى توقيعه في معرض الكتاب في كنيسة مار الياس أنطلياس، في تشرين الثاني من السنة 2013؛ فكان المحفّز لي، بعد غياب أربع وعشرين سنة، للعودة إلى الجامعة وإكمال السنة الرابعة من تخصّصي في اللّغة العربية وآدابها، حتى نلت الإجازة التعليميّة في العام 2014، ثم الماجستير في العام 2017.

مضت الأيام، وكنت كلّما مررتُ من أمام مبنى "تلي لوميير" أستعيد ذكرى تلك المرحلة التي بقيت حيّة في نفسي، كما بقي "خيّ جيديوس" حيًّا في دُرْج مكتبي بالرغم من مرور السنين، من دون أن أصعد لألقي التحية على الأخ نور، يقينًا منّي أن لا قيمة لزيارتي طالما لا أحمل جديدًا للشاشة...

كلّ هذه الذكريات أيقظها من سباتها اتّصال جاءني كيدٍ سحريّة، فتحَتِ الدُّرج، ففاحَ العبير! عبير ذلك الزمن... إنّه الأخ نور بنفسه، في وقت لم أتوقّعه! اتّصل، كلّمني بصوته الخفيض، المثقل بالتواضع، عرّفني بنفسه، فاستحضرته أمامي في لحظة، قال: "أردت أن أسلّم عليكِ وأطمئنّ على عائلتك، فقط".

كانت تحيّاتي تصله باستمرار مع الصديق جان بو عبود، وبطيبة واتّضاع لا مثيل لهما، فور وصول سلامي له، اتّصل يسأل عن حَبّة رمل ظنّت يومًا أنّها ستبقى في أساس عمارته الروحيّة، ولكنّ ريح الزمن حملتها بعيدًا؛ مع ذلك، لم يتجاهلْ سؤالَها عنه، هو الأبَ الصالح الذي لا ينسى أبناءه برغم المسافات. 

اقرأ للكاتبة أيضاً: خربشات ما قبل الألزهايمر

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم