أرشيف "النهار" - أزمة الانسان المعاصر

عصرنا عصر رقي ونور واختراعات. في هذه الاعوام الاخيرة سارت العلوم الى الامام اشواطا لم تتعرّف الى امثالها الاساطير. استند الانسان الى اساس متين والى نقطة ارتكاز قوية. فسار صعدا على سلم الاختراع والاكتشاف، الى ان وضعت هذه العلوم، بين يديه، قوى وامكانات كان يظن في ما مضى، انها من صلاحيات الالوهة وحدها. لكن هذا الانسان المؤلّه انذهل بغتة عندما رأى ذاته محاطا بألف صعوبة وصعوبة. لم يعد يعرف نفسه في العمق ولا ماذا يصنع بالذي بين يديه. اصبح يُركن - لكن بحيرة وقلق وغصّة وجود - الى العلوم، كي تجيبه عن لغز وجوده وقدرته العظيمة. العلوم المتطورة خلقت الانسان المعاصر، والعلوم سبّبت أزمة الانسان المعاصر. والعلوم، في اواخر القرن العشرين تبحث يائسة عن جواب لانسانها المتحضّر وعن حل لازمته. ومن الاكيد انها اذا لم تُسعد الانسان وتعطيه الجواب المنشود تكون فشلت في سائر اكتشافاتها واختراعاتها المذهلة. وهذه الاكتشافات والاختراعات، من جهة، افاضت الغرور في قلوب البشر فتكبروا وتجبروا وتشامخوا وامتلأوا عجرفة وعنجهية. ومن جهة ثانية ألقت الخوف في القلوب نفسها فلم تعد تطمئن الى لذّة الانتصار، لان تقدمنا العلمي التقني والمادي بمقدار ما يحمل آمالا ومواعيد مشرقة يحتوي على مخاوف وتهديدات. البشرية المتمدنة نظرت الى هذه الكشوف العلمية والانتصارات الاخيرة والمتجددة على عوامل الطبيعة بذلك الحذر الذي يرافق العظائم الرهيبة. "رد الفعل" ازاء المذهلات التقنية، بعدما هدأت الانفعالات والتأثيرات الاولى، لم تكن من نوع الغبطة والانشراح، كما يحدث عادة عندما يكون التقدم والنجاح دلالة على حاضر بألف خير وسلام وعلى أمل في مستقبل زاهر. لقد اقتنعنا بتلك التطبيقات الفنية التي ملكت علينا شعورنا. وقبلنا الاختراعات والمذهلات التي تتابعت بسرعة في هذا الجيل. اعترفنا بجرأة الانسان وقدرته عندما تدرّج وارتفع من العالم الاصغر الى العالم الاكبر، مرسلا الى الفضاء البعيد اجراما من صنع يديه ذهبت تقاسم الكواكب والنجوم البقاء والديمومة. او اكتسبت من الارض قوة وجاذبية، فراحت...