الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

هاجر: صراع قرن مع الأزمات... وإصرار على الاستمرار

المصدر: "النهار"
طرابلس - رولا حميد
A+ A-

في وسط شارع التل الطرابلسي، أول وأهم شارع تجاري في طرابلس الحديثة، تقوم محلات "هاجر" للأحذية. محل متواضع، بسيط الديكور، كل الناس يعرفونه، لكنه لا يبدو من المحال التجارية الهامة في الشارع، فقربه شركة الـ "أ.ب.ث"، ومحال رفعت الحلاب الأول، وأحذية "باتا" (أقفلت منذ سنتين)، على الصف عينه.

لكن في خلفيات المحل البسيط يكمن تاريخ طرابلسي عريق، ويمتد إقليمياً ليطاول مختلف مدن شرقي المتوسط بطريقة من الطرق، ذلك قبل تكريس تقسيمات سايكس-بيكو، دولاً وأنظمة.

هيأ للمحل، وخلفيته التاريخية الغنية، حفيد مؤسس أحذية هاجر. إنه المهندس كامل، حامل اسم جده المؤسس، الذي وثق تاريخ الصناعة الحاملة لاسم العائلة، واحتفظ بكل ما يمت إليها بصلة، من أوراق، ورسائل، ودفاتر عتيقة، وسواها، تحمل في ثناياها تاريخ العائلة، وفي نفس الوقت مناخات تاريخ مرحلة القرن العشرين منذ بداياته، وحتى اليوم.

شهد المحل مختلف تطورات تلك الحقبة، حيث كانت ساحة التل مسرح مختلف التطورات الطرابلسية حتى بدايات الألفية الثالثة، وبعدها بدأ التراجع الاقتصادي في لبنان، وانعكس على أعمال "التل"، ومنها محال هاجر. ويتذكر جمال، شقيق المهندس كامل، عندما كان صغيراً، ويأتي إلى المحل، كيف كان يعج بالزبائن، دون هوادة، وفي رمضان، وابتداء من اليوم العاشر، تزدحم الحركة فيه منذ ما قبل الفطور، وتعود بعد الفطور، وتستمر حتى منتصف الليل. أما في الأيام العشرة الأخيرة، فلم يكن المحل والعاملون فيه ينامون حتى صلاة الفجر، بحسب جمال.

والمحل ما هو إلا واجهة المصنع، ربما أول مصنع بني في طرابلس، هو مصنع كامل درويش هاجر للأحذية، تأسس سنة 1902 في الميناء بطرابلس، حيث كان الحاج كامل يقيم، في المبنى عينه الذي أسس فيه مصنعه، ولا يزال المبنى، وإعلان المصنع موجوداً حتى اليوم.

أما في المحل، فيحتفظ كامل باللافتة التي جيء بها من أنطاكية، قبل أن تحتلها الدولة التركية، وكانت تتصدر فرعاً للمصنع هناك، وهو أحد فروع عديدة انتشرت بين مناطق لبنان وسوريا وفلسطين، مثلما وصلت إلى هذه المدن جريدة "الصناعة الوطنية" التي أنشأها الحاج الراحل في عام 1974، تابعة لمصنعه، وموثقة أعمال المصنع، وعلاقاته التجارية، والسياسية، والاجتماعية، كما عاكسة لوجه العصر الذي نشأت فيه، ولا تزال بضعة أعداد منها محفوظة في أرشيف المهندس الحفيد كامل.

كما شاركت أحذية هاجر في مختلف المعارض التي أقيمت في فترات متفاوتة في المنطقة ومنها فلسطين وسوريا ونالت جوائز امتياز متعددة.

يستعرض كامل الجريدة منطلقا للحديث عن الصناعة، وتجليات ذلك العصر. يذكر أن ما يتوافر من أعداد الجريدة يقتصر على إصدار زهاء 24 عدداً منها، وتحمل تواريخ عامي 1933 و1934، ويذكر أن "لا أحد يتذكر كم كانت الأعداد، ولا تحديد تاريخ إصدار الجريدة، ولا نهايتها".

وفي سجل متعلق بالجريدة مخطوط باليد، تشير صفحاته إلى الشخصيات، ومدن الشرق المختلفة، التي كانت تصلها الجريدة، على رأس اللائحة اسم مفتي طرابلس عبد الحميد كرامي، ومن المدن بيروت، وجونية، وبكفيا، ودمشق، وحلب، وحماة، واللاذقية ويافا وحيفا في فلسطين، وسواها.

ويلفت إلى محطات عمل جده منطلقا من الجريدة، ففيها يظهر مدى اهتمام الجد بمحو أمية العمال بمختلف الأعمار، ويحدد مواعيد العمل والإغلاق، وكيف كان يولم للعمال في الأعياد، خصوصا عيد الفطر، ويقدم لهم وجبات يومية، ويسجل قائمة المأكولات في دفتره اليومي.

ويتحدث عن أحداث مختلفة جرت في عصرها، ومنها قدوم وفد فني ألماني ذات يوم إلى المصنع، عارضا على الحاج كامل تطوير معداته، فسأل الحاج الوفد عن أهمية الآلات، فشرح الوفد أنها تسرع العمل، وتنتج أكثر في وقت قصير، وبالتالي، يمكن الاستغناء عن ثلثي العمال.

"رفض الحاج كامل العرض، متسائلاً للوفد، وماذا أعمل ببقية العمال"؟ كما قال كامل الحفيد، مضيفاً أن "المصنع كان يضم زهاء 150 عاملاً، وكان من شأن تطويره تقنياً، التخلي عن مئة عامل على الأقل، لكن جدي لم يقبل بتشريد العمال، فقد كان شديد الحرص على علاقاته الإنسانية معهم، وهو الذي نظم لهم الضمانات الصحية والاجتماعية على نفقته يوم لم تكن الدولة اللبنانية قد أسست مؤسسات الضمان التابعة لها".

ويعلق كامل على خطوة جده وما ألحقت به من خسائر عند وقوع المضاربة من الشركات الحديثة الكبيرة كشركة "باتا"، ويقول إن "الحاج كامل آثر الخسارة على الاستغناء عن العمال".

ومن الوقائع المرتبطة بالمصنع، أنه بعد وفاة والده وشقيقه خلال أدائهما لفريضة الحاج، فكر جده كامل بإقفال المصنع، فجاءه أحد العمال من زمن والده، وكان اسمه نوري صافية، وتساءل لديه عما يمكن ان يعمله لكي يعيش إذا أقفل الحاج كامل المصنع، وقال له: “هل تريدني أن أتشرد بعد كل تلك السنين؟". "وبطبيعة الحاج كامل العاطفية، ونزعته الاجتماعية الانسانية، قبل تحدي الاستمرار في المصنع رغم احتمالات الخسارة التي كان يمكن أن تقع في حينه"، يقول كامل متذكراً كيف "ظل، وهو ما زال فتى يافعاً، يحمل المعاش التقاعدي من جده لذلك العامل حتى وفاته أوائل الستينات عن عمر جاوز التسعين، بينما رحل جده كامل 1974".

تعتبر صناعة هاجر من الصناعات الجيدة متانة وذوقاً، ولذلك استطاع "الهاجريون" الصمود، والاستمرار فيها حتى اليوم، ولا تزال فيها قطعة حذاء هي الأعتق في طرابلس، وربما في لبنان، وتحمل تاريخ تصنيعها سنة 1902.

أرشيف هاجر يضم الكثير من المشاهدات والمعطيات التي تؤشر لعصرها في محطاته المختلفة، تتحدث عنها كمثالن أسعار الأحذية، التي كانت تراوح بين العشر ليرات والخمس عشرة ليرة بين أوائل الخمسينات وأواسط الستينات، وصولا إلى السبعينات حيث ارتفع الثمن ليراوح نحو العشرين ليرة.

على الصعيد العام، والنزعة الاجتماعية التي حملها الحاج كامل، فتشير وثائق ورسائل من جهات مختلفة وصلت إليه إلى مدى حبه للمساعدة دون تمييز بين دين وعرق، وتعبر بعضها عن مدى التزامه بالقضايا القومية، وأولها القضية الفلسطينية. نذكر على سبيل المثال ثلاث رسائل، الأولى من "الهيئة العربية العليا لفلسطين"، والثانية من "أبرشية بيروت الكاثوليكية"، والثالثة من "متروبوليت فلسطين"، كلها تشكره على ما قدمه من مساعدة لهم.


محل هاجر في شارع التل يقاوم، ويصارع الأزمة المتفاقمة مثله مثل الكثير من المصالح والأعمال، وقد مر في ظروف متفاوتة من الصعوبات، وتمكن من تجاوزها، ويختم كامل: “لا خيار لنا إلا الحفاظ على الإرث الكبير الذي خلفه لنا جدي، والحفاظ على اسم مميز في عصره، وحافظ عليه والدي مصطفى، وعمي عبد الرحمن، وقد مررنا بصعوبات كثيرة، ونحن مستمرون".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم