الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

أرشيف "النهار" - التأريخ الاجتماعي: مدخل الى استيعاب الطائفية

المصدر: أرشيف "النهار"
Bookmark
أرشيف "النهار" - التأريخ الاجتماعي: مدخل الى استيعاب الطائفية
أرشيف "النهار" - التأريخ الاجتماعي: مدخل الى استيعاب الطائفية
A+ A-
يتميز الواقع اللبناني عند طرح كل "جديد" كالغاء الطائفية السياسية، بردة الى الماضي، يستفيق معها الوجدان التاريخي، بمقدار ما تثير التخوف على المستقبل. وقد نفسر هذه الردة على انها تمسك بالماضي، او هي ناتجة من ذهنية المحافظة في المجتمع اللبناني. ويعترض بعض المثقفين على هذا التفسير بدافع الخروج من "المأزق الطائفي" على انه مدعاة تخلف وتفكك وغربة الذات عن الآخرين في المجتمع الوطني. واذا كانت المقاربات الايديولوجية والسياسية لهذا الواقع لم تنجح حتى الآن في ايجاد الصبغة السوسيولوجية الافضل للمجتمع الوطني، فان استمرار الواقع الطائفي يعني ان الطائفية هي نتيجة لاسباب اعمق واكثر تجذرا في تاريخ الجماعات اللبنانية. وتاليا فان البحث الموضوعي من وجهة التأريخ الاجتماعي، يقضي باستكشاف تلك الاسباب في ضوء حضور الماضي في تاريخ الجماعات، وفي المدى الزمني الطويل من تاريخها. ونظرا لغنى الموضوع وكثرة الجدل حوله، سنسعى الى الوقوف على بعض المفاهيم التي تشكل المدخل الاساسي لاستيعاب الطائفية، واستطرادا الطائفية السياسية. ان حضور الماضي في تاريخ الجماعات يعيد البحث الى صلب المسألة المجتمعية. ففي التقلبات السياسية والتحولات الاجتماعية والازمات الاقتصادية، وفي العودة باستمرار الى الذات الجماعية، تكمن المفارقة الاساسية بين الزمن السياسي والزمن المجتمعي: الاول ظرفي، متحول، يستجيب لاوضاع طارئة او حاجات مستجدة، تدفع الجماعات الى لقاء بعضها البعض في المدى الجغرافي، والثاني، بنيوي يحدد الشروط المعلنة او الضمنية للقاء الجماعات. فترسي تلك الشروط قواعد التعايش بمقدار ما تتحكم بصيغة الاجتماع السياسي وتبقي على طبيعة المجتمع التعددي. والمسألة المجتمعية تتقلص عندئذ، ظاهريا الى حدود المسألة السياسية التي تجد كامل تعبيرها في ممارسة السلطة. لكن هذه السلطة ليست مطلقة في المجتمع التعددي، اذ انها تخضع للمستجدات وعوامل التحول ونمو عناصر التركيبة المجتمعية. وتلعب التحولات الاقتصادية والاجتماعية على قاعدة سكانية نامية، دور المؤشر في خلق حالة نزاعية حول السلطة ولاجلها. واهم ما في هذه الحالة، انها تضع الجماعات في مواجهة مفهومين للزمن: الزمن الرتيبي الذي يستهلك الجماعة بالعودة ابدا الى الذات في صفائها الاول. فكل المستجدات غير المألوفة "منكر" يظل على هامش الوجدان التاريخي. ويجب تاليا النضال في سبيل تصحيحه او ابعاده مهما بلغت التضحيات. فالزمن الرتيبي هو حالة تكرارية تحتضن المستقبل بمقدار ما يتراءى فيه الخطر الذي يهدد سيرة الجماعة ليخرجها على ذاتها ويجعلها على هامش تاريخها. والمفهوم الثاني للزمن الذي تواجهه الجماعات، هو الزمن التراكمي الذي تشكل فيه المستجدات والتحولات "احداثا" تشد الجماعة ابدا الى المستقبل، بمقدار ما تجد في ماضيها وضعية تاريخية غير ملائمة لايديولوجيتها المجتمعية. فالزمن التراكمي هو استهلاك للماضي بمقدار ما تشكل "احداثه" مكتسبات تمكّن الجماعات من امتلاك تاريخها والمساهمة بفاعلية في الحركة التاريخية، بحيث تدخل تلك المكتسبات في صميم بنية الوجدان التاريخي. والمحافظة على تلك المكتسبات توجب النضال بمقدار ما يعتري الوجدان خوف من العودة الى وضعية تاريخية مرفوضة، لا تعوض الا بالتطلع الى المستقبل. ومن المفارقات في هذين المفهومين للزمن، ان الوجدان الجماعي مشدود ابدا الى الماضي، سلبا او ايجابا. ويزداد حضور الماضي حدة في تاريخ الجماعات كلما تعرضت للأزمات، لا بل ان هذا الحضور هو مدعاة لأزمة كلما واجهت الجماعات مستجدات مصيرية او توافرت لها ظروف مؤاتية لتصحيح وضعيتها التاريخية. وما وصل اليه مجتمع الجبل في النصف الاول من القرن التاسع عشر نتيجة التحولات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، استتبع حكما تفكك المجتمع التعاقدي حول السلطة، ليطرح من ثم مفهوم الامارة المجتمع والدولة والكيان السياسي - الجغرافي، ومبدأ قيام السلطة فيه. فأزمة الامارة الشهابية والتجارب الدستورية التي عرفها مجتمع الجبل بعد كل "حركة" في القرن التاسع عشر، تدل على ان الازمات متشابهة من حيث اسبابها العميقة ونتائجها السياسية، اذ اتجهت الحلول نحو التجاوب مع عناصر التركيبة المجتمعية بغية ايجاد الصيغة الدستورية الملائمة لطبيعة الاجتماع السياسي التعاقدي. واللافت في هذا المجال، ان الابعاد الاقتصادية "للحركات" وما رافقها من قهر ومآس، ظلت على هامش الايديولوجيا المجتمعية التي قدمت مفهوم سيادة الجماعة على نفسها على اي اعتبار آخر. كذلك فان الجهود العثمانية لاستيعاب الامارة، والمداخلات الدولية بما قدمته من اقتراحات لتسوية الاوضاع، على رغم ما اخفته من مصالح وسعت اليه من نفوذ، باءت جميعها بالفشل امام تمسك الجماعات بخصوصياتها، لا بل ان كل الجهود استجابت بالنتيجة لواقع التركيبة المجتمعية كشرط اساس لايجاد الصيغة الفضلى لحكم الجبل. ان الارتداد الدائم الى واقع التركيبة المجتمعية لايجاد الحل الملائم للأزمات، يضع البحث امام مشكلة تاريخية لا بد من مواجهتها منهجيا وتاريخيا: فهل ان ما وصل اليه مجتمع الجبل في القرن التاسع عشر بعد عصور من التعايش، هو نتيجة ظروف طارئة ومداخلات خارجية، عثمانية واوروبية، استتبعت قيام "الحركات"؟ وتاليا كانت عناصر التركيبة المجتمعية اداة هذه "الحركات" بمقدار ما تنكرت الجماعات لذاتيتها التاريخية وايديولوجيتها المجتمعية. والازمات عندئذ آنية لا ترتبط بتاريخ المجتمع، لا بل ان المجتمع كان ابان تلك الازمات على هامش تاريخه. وتركيز البحث على الازمات في ذاتها، يحد التأريخ في الزمن القصير المتقطع، ويفقد المجتمع عامل استمراريته في الزمن الطويل، والجماعات عندئذ "مواد" تأريخية لا كينونة لها في ذاتها، تدخل التاريخ بمقدار ما هي اداة للأزمات، ام ان ما وصل اليه مجتمع الجبل في القرن التاسع عشر، هو حصيلة مرحلة طويلة من التحولات المتفاعلة والعوامل المتراكمة التي اوصلت الى ازمة المجتمع التعددي؟ فكانت...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم