الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

أرشيف "النهار" - خواطر رئاسية وديموقراطية

أرشيف "النهار" - خواطر رئاسية وديموقراطية
أرشيف "النهار" - خواطر رئاسية وديموقراطية
A+ A-

باريس هذه الايام تحيي في النفس الايمان بأن لا انتصار لأي نظام، مهما تكبّر، على الديموقراطية، وبأن لا حياة سياسية، ولا ثقافية تستهوي خارج نظامها. اول ما يتسلّط على العقل ليس الانتخابات الرئاسية، التي تملأ الدنيا وتشغل الناس، ولا بالطبع المحاكمات "على الطريقة الايطالية" التي تصفّي تركة الاشتراكيين، بين وزراء يدانون ونواب يسجنون (في الدول الحضارية يسجنون الوزراء والنواب حتى لو لم يرتكبوا جرائم قتل جماعية مشفوعة بالسرقة الجماعية كذلك... هذا اذا لم ينتحروا!!!) بل تتسلّط على العقول وتملأ الخيال صورة المارد الثاني بعد الجنرال ديغول في الجمهورية الخامسة: فرنسوا ميتران... تظنه مقبلاً على رئاسة الامة، وليس مودعاً الحكم والحياة في آن واحد، لا يضاهي جَلََده على الخلق في السياسة سوى ترفعه على اوجاع المرض الفتاك في بهاء فكري قلّ نظيره عند رئيس: "الوجع والالم؟... لم اخلُ مرة الى نفسي قدر ما اخلو هذه الايام، استمتع حقاً بالوحدة". وكمخرج مسرحي ضخم الخيال، تجده يرتّب احتفالات تسليم السلطة بعد اربع عشرة سنة، الى المعارضة اليمينية التي لا يشك في انتصارها... كأنما انتصارها ليس ضدّه، بصفته الرئيس الاشتراكي الأهم في تاريخ فرنسا، بل ضد لا أحد... هي فقط انتقال ديموقراطي طبيعي من حزب الى حزب، او من جيل الى جيل، ومن مدرسة الى مدرسة. "وثمة على الدوام - يقول - مستقبل ينتظر الذين ينظرون الى المستقبل". حديث الصفحتين الكاملتين في "الفيغارو"، فضلاً عن خطابه التاريخي امام قمة كوبنهاغن حول مستقبل الارض، واستقباله الحافل لفيديل كاسترو الزعيم الشيوعي المعزول في عالم يشيح ببصره عن اليسار... كل ذلك، وحتى كلامه في اخر حفلة تقليد اوسمة، بأبّهة "اليزيانية" نادرة، والى جانبه رئيس مجلس نواب اليمين الطالع... كل ذلك تجد اختصاره في عبارة اخرى للرئيس الذي يودّع: "يجب ان يبقى دائماً شيء تحلم به الأمة ويحلم لها به الحكام"!    تخرج من قصر الاليزيه الى ساحة العراك، فتجد نفسك في دنيا المفارقات والمتناقضات... الا انها كلها تتلبّس، بالحلم، بالفكر، بمباراة بين رؤية واخرى... وكلهم يؤلفون، كما الرئيس ميتران وكما الجنرال ديغول من قبله، كتباً تعرض لك رؤاهم. في فرنسا، تكاد تبكي على لبنانك وعالمك العربي المتخلف، عندما تدرك كم هو مهم، وضروري للحكم حتى يستقيم، لا ان يقرأ الرؤساء الكتب فحسب، بل ان يناقشوا الصحافي في اي المؤلفين والمفكرين التاريخيين يفضّلون... وان يكونوا هم في طليعة الكتّاب وانضج المفكرين! ثم ان يتبارى المرشحون للرئاسة في التأليف وعرض الكتب التي تستهوي او لا تستهوي برؤاها وافكارها الناخبين واهل القرار في الرأي العام. أوَتلك هي ثقافة، فقط ثقافة؟ لا... تلك هي الديموقراطية التي لا استقامة لها خارج الاطار الثقافي والخَلق الفكري، الذي هو "منظار المستقبل للذين ينظرون دائماً الى المستقبل". الى ذلك، ماذا عن "المعركة" بحد ذاتها؟ انها تُحسَم موسماً موسماً، باستطلاعات الرأي العام الذي تكيّفه لا افكار المرشحين ورؤاهم المستقبلية فحسب، بل تصرفهم قياساً بالرؤية والفكر و"الاحلام" المعروضة على الأمة والشعب. الآن، اليوم: جاك شيراك هو الرئيس، بعدما كان الخاسر الكبير من اسبوعين او ثلاثة. وترى تصرّفه يتغير فيتكيف بالنصر المرتقب، وكذلك كلامه ولهجته، وكتابه "فرنسا للجميع" الذي يتهافتون على قراءته، وخطته امس عن اوروبا، اي "الحلم" الفرنسي منذ القرون الوسطى. الى ذلك، اليسار يأسف لأندحار... بالادور! كما ثمة يمين يأسف لامتناع جاك دولور عن خوض المعركة باسم اليسار. تلك بعض المفارقات، فضلاً عن الآسفين على خروج الرئيس بار، والرئيس جيسكار و... و... الآسفين طبعاً على ان ليس في اليسار ميتران آخر. ومن المفارقات كذلك - هل هي مفارقة؟ - ان احد اهم عناصر تدني شعبية بالادور هو خفضه موازنات الثقافة، وزارة ومساعدات، 27 في المئة، مما يبعد عنه طبقة صانعي الرأي في فرنسا ولو لم تتجه هذه بزخم كبير نحو جاك شيراك الذي لا تزال قاعدة قوته الكبرى صناعة باريس متجددة اجمل، بقدر ما هي انتماؤه الى ديغول ينتمي اليه حتى الخصوم اليساريون. هل صار شيراك اذاً رئيساً؟ يتصرّف هكذا، وهكذا صار يكيفه اعوانه وفريق عمله السياسي والاعلامي... الا اذا... الا اذا اكتشفوا له، او اخترعوا فضيحة في وزن هذه التي تَساوى امامها، وامام القضاء، وزراء لميتران ووزراء ونواب لرئيس وزرائه اليميني بالادور! ذلك انه، في فرنسا، اذا كان الفكر لا يزال يحيي الديموقراطية، والحلم يغلّب الرؤساء على الموت، والفضائح، فالفضائح تقتل المرشحين. ف"نيال" فرنسا، يقول اللبنانيون.    ماذا للبنانيين غير ذلك، وهم الذين يتهيأون لولوج انتخاباتهم الرئاسية؟ اول الخواطر الباريسية، التي تراودك، بعد كل الذي اوحته الينا رئاسة ميتران، هو هذه المقارنة البسيطة بين ديموقراطية واخرى: في الديموقراطية الانتخابية، اي الديموقراطية الحقيقية، سواء أكانت فرنسية ام اميركية، يسبق الانتخابات حوار وطني يرتفع إلى مرتبة "التاريخية" اذا كان المرشحون من ذوي "الهامة التاريخية" والوزن العظيم. يرافق الانتخابات اذذاك شغف بالغ: موسم مصارحات ومناقشات، صراع بين الافكار ومطارحة، بل مباراة في القدرات... يشعر الشعب انه حقاً يختار مستقبله ونظام حياته والاحلام، بموجب حقوق طبيعية هي جوهر الدستور. اما في الديموقراطيات التي تختبىء خلفها ديكتاتورية مقنَّعة، فانتخاب الرئىس يبدو كأنه واجب مفروض وليس حقا مقدسا. الرئىس تلو الرئىس "يستنخب" نفسه من الشعب، يُفرض عليه كأنه "وصفة" او "روشيتة"، بدل ان يكون رؤية لمستقبل افضل ووعداً بحياة حرة خلاقة مقبلة على مزيد من الرقي ومزيد من الحقوق والحريات! يبدو الرئيس في هذا الاطار، بل هذه "الحالة"، كأنه "الطبيب المداوي" الفارض نفسه على الشعب المريض، الفاقد "رشده" (آه من التخلف في الرشد، الرشد!!!) المحتاج اذاً الى مرشد... وكم من "مرشد" اغتصب تاريخ شعبه الى ان انتهى، كستالين او تشاوشيسكو او هتلر، ومن قبلهم الكثيرون، على مقصلة او في احسن الحالات الى نفي ذليل! الديموقراطية الحقيقية اذاً، حتى عندما يكون الرئيس ديغول - او ميتران بمثابة ديغول - هي رفض "الابوية" في الحكم وادعاء الارشاد وحق اختيار الرئيس المعيِّن نفسه، اوالذي يعيّنه اخرون على شعب يعلنون انه القاصر الفي حاجة الى رشد سواه وارشاده! والديموقراطية اخيرا هي ان يجيء الحكم تعبيرا عن طموح الشعب، لا تحقيقا لطموح... الرئيس!!!    ولكن، ما لنا وللتنظير... قد يقولون! ماذا للبنان؟... اية امثولة؟ اية عبرة؟ اي "حلم" ولو ميتيراندياً- اي حلم الحكم الخارج من الحكم... بعيدا عن "المعمعة"، هنا في باريس، يكاد اللبناني لا يستغرب، ان احدا من المرشحين اللبنانيين للرئاسة لم يفتح المعركة ببرنامج - ولا يذهب بنا الطموح الى حد ترقب كتاب او مقال يلخص موقفا... - وان ليس بعد من حوار ولا مناظرة بين المرشحين، او على الاقل بين دعاتهم والانصار. صديق فرنسي من العارفين الكبار بالشؤون اللبنانية، والشرقية، لما سمع اننا ننتظر جميعنا "كلمة السر" حول تعديل الدستور لتمكين المجلس من التجديد لرئيس الجمهورية او التمديد له، قال بما يشبه المزاح: "عال... هذه فرصة، بل مبادرة ديموقراطية، من حيث لا تدرون ولا هم يريدون!" ومضى الصديق يشرح امام حلقة فيها مَن فيها من المعنيين المسؤولين ان الحوار الديموقراطي الذي لن يجري على صعيد الرأي العام سيكون مجلس النواب موقعه والاطار الاكثر عناية، بل الاعرف بالامور فالاقدر على المحاسبة - نعم، المحاسبة - والنقاش والمفاضلة. - المحاسبة؟... تساءلت، اية محاسبة؟ ومَن تراه اذذاك يحاسب مَنْ؟ ثم ادركت انه لا بد، متى جاء الاقتراح بتعديل الدستور الى مجلس النواب، ان يقوم الدعاة بالدفاع عنه شارحين "الاسباب الموجبة" لبقاء الرئيس الهراوي في سدة الرئاسة، الامر الذي لا يعقل ان يجري الاقتراع عليه من غير بسط معارضي اقتراح تعديل الدستور، ولو كانوا قلة، اسبابهم الموجبة للمعارضة. ويكون الرئيس الهراوي اول رئيس للجمهورية في لبنان يناقش مجلس نواب ما لولايته وما عليها، وما يوجب بالتالي تمديد ولايته، وما يجب ان يمنع استمرارها...    تُرى هل حسب دعاة تعديل الدستور هذا الحساب؟... لا نخالهم يحسبون، او لربما كان في حسابهم ان احدا لن يجرؤ ويحاسب... لان ليس من نائب سيتنطح ويتكلم. المهم ان فرصة ديموقراطية عظيمة ستسنح امام الذين يستمرون يشككون، فيظنون - وبعض الظن اثم! - ان النظام اللبناني يجعل انتخاب الرئيس فعل وصاية وليس وليد حوار. اذ اي حوار يمكن ان يكون اجدى واكثر مسؤولية من اضطرار انصار الرئيس الى تقديم "كشف" بما حفلت به ولايته قبيل نهايتها... فتمدد الولاية نتيجة ذلك، او يرفض المجلس تمديد ثقته بالعهد والرئيس قبل ان يصير ترشيح او يدعى النواب الى انتخاب؟ تلك - ولا بأس - مدرسة جديدة في الديموقراطية تعوّض عن انحدار النظام اللبناني من ديموقراطية الخيار الشعبي، او البرلماني الحر بين مرشحين متعددين، على اساس المقارنة بين مواقفهم وبرامجهم والكفايات - انحدار النظام الى ديموقراطية الوصاية التي تلزم الشعب ومجلس النواب اختيار رئيس لا خيار سواه! يبقى، متى، واذا، طرحوا تعديل الدستور، ان يقوم بين النواب ولو مرشح واحد للرئاسة يخرج على "ميثاق الصمت" - ولا نقول الخوف؟ - ويجرؤ على المناقشة، فينقذ هكذا شرف المجلس كشرف الدستور كالبقية الباقية من شرف الديموقراطية اللبنانية، حتى نظل نستحق الطموح الى مزيد منها. فما رأيكم، ايها السادة النواب؟ وما رأي الرئيس وحراس الدستور، ولو من حيث لا يفقهون؟ غسان تويني

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم