الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

هستيريا "القضايا" التافهة

عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

إذا كان لكلام تافهٍ، ساقطٍ، سافلٍ، وعديم التهذيب، في حقّ نصرالله بطرس، وهو بطريركٌ أنطاكيٌّ راحلٌ للتوّ، وشخصيّةٌ تاريخيةٌ محترمة، إنسانيًّا ووطنيًّا ودينيًّا، أن يُحدِث كلّ هذا الانفعال لدى "الرأي العام"، وأن يحرّك المراجع الدينيّة والمدنيّة، المجتمعيّة والسياسيّة والقضائية، وأن يفضي بقائله إلى العزل والحرم والتكفير، وربما إلى التوقيف والاعتقال والسجن، معًا وفي آنٍ واحد، فلا بدّ أن نكون قد انزلقنا إلى هاويةٍ معياريّةٍ لا خروج منها، وأنّنا بتنا في حالٍ عميمةٍ من الانحطاط والانهيار، ومن انعدام العقل والتعقّل والرؤية والرويّة والحكمة والقياس والتبصّر، على كلّ المستويات.

خلال الأيّام الثلاثة الفائتة، أظهرنا أنّنا نعيش في خللٍ اضطرابيّ مثيرٍ للهلع. لستُ عالِم نفس، لكنّ ظواهر الهستيريا الظلمويّة تتملّكنا، وتستولي على مداركنا وقدراتنا الاستبصاريّة، وتجعلنا نفقد كلّ معيارٍ نقديٍّ أو عقليّ، من شأنه أن ينيرنا لنضع الأمور في نصابها النسبيّ، الموضوعيّ والواقعيّ. فهل يُعقَل أن يكون المطاف قد آل بنا إلى هنا، أيّها الناس، ويا أيّها المسؤولون، في كلّ مجالٍ وموقعٍ ومكان؟

ترى، هل يُعقل أن تكون "القضيّة الأولى" التي شغلت "الرأي العام" والمسؤولين، كلّ المسؤولين تقريبًا، هي "قضيّة" القول الزقاقيّ الذي تفوّه به شخصٌ، وإن يكن هذا الشخص هو رئيس الاتحاد العماليّ العامّ؟

ترى، أيعقل أن لا تكون لدى أحد، خلال الأيّام الثلاثة الفائتة، "قضيّة" تشغل عقله واهتمامه أكثر من "قضيّة" المدعوّ بشارة الأسمر، أو أن لا يكون لدى أحدٍ معيارٌ "يشغّل" به عقله لقياس الفعل وردّ الفعل؟

خلال الأيّام الثلاثة الفائتة، ظننتٌ لوهلةٍ أنّه لم يعد ثمّة جوعٌ في البلاد، ولا تلوّثٌ، ولا مرضٌ، ولا انتهاكٌ لسيادة الدولة، ولا قتلى على الطرق، ولا سرقات، ولا عمليّات نهب، ولا حروب موازنة، ولا اعتداء على حقوق المتقاعدين ومكتسباتهم، ولا مشاكل للأساتذة، ولا خطر انهيارٍ اقتصاديّ وماليّ، ولا مخاوف من حروبٍ مدمِّرة تتهدّد منطقتنا.

هذا عينُ ما تريده السلطة لنا، أن نراه، وأن نتفاعل معه، متغافلين عن قضايانا وحقائقنا الموجعة.

فليستقل الرجل من منصبه لأنه ليس أهلًا له على المستوى الأخلاقيّ، ولأنّه – واقعيًّا وعملانيًّا - ليس عاملًا ولا نقابيًّا، ولأنّه، على ما يُقال، قد يكون باع نفسه للطبقة السياسيّة. أمّا أن تتحرّك "الأجهزة" هذا التحرّك، وأن يُحتمَل الزجّ بالرجل في السجن، فهذا عملٌ ينتهك الحقّ الذي يُدافَع عنه.

خلال الأيّام الثلاثة الفائتة، رحتُ أسأل نفسي مندهشًا ومذهولًا، كيف "تشتغل" وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف يُستَسلم لمعاييرها التحريضيّة، وكيف ينجرف الناس في الإثارة، وكيف ينفعلون، فتُثار العصبيّات، وتتحرّك السلطات، كلّ السلطات، والأجهزة الأمنيّة والقضائيّة، بسرعةٍ تكاد تفوق سرعة الصوت؟ وكيف يهبّ زعيمٌ ومسؤولٌ كبيرٌ وحبرٌ شبه أعظم ورأيٌ عام، دفعةً واحدةً، وفي رمشة عين، للتصدّي لهذه "القضيّة" الخطيرة التي تستحقّ عندي نظرة ازدراء فحسب. ربّما نظرة احتقار. والأرجح نظرة لامبالاة؟!

لا تنسوا أنّ نصرالله بطرس كان أُهين وشُتِم واعتُدي عليه جسديًّا ومعنويًّا في حياته، على أيدي مسؤولين وقادة وزعماء ووزراء ونوّاب وحزبيين وأوباش معروفين، وبالكاد تحرّك أحد.

هذا يجب ألّا يعفينا من المقارنة بين التصرّفين.

لا تنسوا خصوصًا أنّنا نتلهّى بهستيريا التفاهات، تحت إشراف السلطة التي تنتهك كل شيء، المقدّسات وسواها، في حين تُوارى قضايانا الأساسيّة مع غياب البطريرك الكبير!

[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم