الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

كانّ ٧٢ – "البؤساء" للادج لي: الضواحي على الكراوزيت!

المصدر: "النهار"
كانّ ٧٢ – "البؤساء" للادج لي: الضواحي على الكراوزيت!
كانّ ٧٢ – "البؤساء" للادج لي: الضواحي على الكراوزيت!
A+ A-

بعيداً من جادّاتها الساحرة وساحاتها التاريخية ومقاهيها الرومنطيقية، هناك فرنسا ما، فرنسا الضواحي - مادة دائمة للتجاذب السياسي - لا يعرفها السيّاح. مدن بعيدة من الأنظار، يلفّها العنف والاهمال والتشدد حيث المهاجرون يعيشون في نوع من غيتوات ويفرضون في أحايين كثيرة قانونهم الخاص، في ظل تغاضي الدولة وأجهزتها، الجزئي أو الكلي، لما يحدث في هذه الأماكن. هذه الضواحي الأشبه بالقنابل الموقوتة، حظيت بمعالجات سينمائية لا تُحصى، أشهرها ربما "الكراهية" (١٩٩٥) لماتيو كاسوفيتس الذي بات مدرسة في هذا المجال، حد ان "أفلام الضواحي" تحولت جانراً سينمائياً قائماً في ذاته.

"البؤساء" للادج لي (باكورة سينمائي من أصول مالية يبلغ الثامنة والثلاثين من العمر) المعروض في مسابقة الدورة ٧٢ من مهرجان #كانّ السينمائي (١٤ - ٢٥ الجاري) يقحمنا في هذه المنطقة حيث يتشابك الثقافات، الشلل، العصابات، الأخوان المسلمون، والقوّادون الذين نصبوا أنفسهم أولياء على البسطاء من الناس. هؤلاء الذين يعتبرهم لادج لي "بؤساء"، في اشارة إلى فيكتور هوغو الذي كتب روايته الشهيرة في مونفرماي (سين سان دوني)، البقعة التي تجري فيها الأحداث.

النتيجة مرضية إلى حدّ ما، ذلك ان لادج لي، ابن هذه الضواحي، يعرف عمّا يتحدّث بقدر معرفته بمحتوى جيبه الصغير. ولكن لنطمئن: لسنا حيال تحفة فنية! لا شيء استثنائياً في هذا العمل الذي سارع بعض الصحافة إلى كيل المدائح في شأنه على نحو مستفز. حتى ان بعضهم تمنى له "السعفة"، في حين ان النسبة الكبرى من أفلام المسابقة لم تُعرض بعد.

الحكاية بسيطة: ثلاثة عناصر من الشرطة المحلية (داميان بونار وألكسيس ماننتي وجبريل زونغا) يواجهون سلسلة مشاكل في منطقتهم وينبغي لهم التعامل معها وإيجاد حلّ لها. أحد هؤلاء الثلاثة، يأتي من منطقة أخرى ليشكّل فريقاً مع اثنين معروفين في المنطقة وينشطان منذ زمن فيها، فلا يزال عوده طرياً، وهو، بطراوته وهشاشته وحيرته وأخلاقه، يمثّل "العين الخارجية العذراء غير الملوثة" على الحوادث. مع بعض المبالغة، يمكن تبني نظرية انه المُشاهد نفسه، بعدما زُجّ به في داخل الفيلم.

ما نراه في الساعة الأولى من "البؤساء"، بصعوده وهبوطه المستمرين، لا يتعدى كونه مسحاً لأوضاع الضاحية وسكّانها، من وجهة نظر هؤلاء الثلاثة. كلٌّ من الشرطيين المخضرمين (أحدهما فرنسي أصيل والثاني من أصول أفريقية) لا يكنّانالكثير من العاطفة لسكّان هذه الأحياء حيث تربّيا، ولكن أسباب "كراهيتهما" لهم تختلف من الواحد إلى الآخر. الشرطي الثالث، صديقنا، هو هنا ليراقب، ويحلل ويفهم. لا مواقف مسبقة لديه، الأمر الذي يقربنا منه، ويبعدنا من الاثنين الآخرين. أما الأربعون دقيقة الأخيرة من الفيلم، فهي تكريس لقسوة بالغة، استوحاها المخرج من حادث عرضي وقع في سين سان دوني عام ٢٠٠٨، وكان شاهداً عليها بكاميراته: صبي له سوابق في الشغب، يسرق شبلاً من سيرك جوّال لغجر استقروا في المنطقة، الأمر الذي يحدث معركة بين العصابات المختلفة في المنطقة. يهدد الغجر، أصحاب الشبل، بالفوضى! فتأخذ الشرطة على عاتقها العثور على اللص، الا انه خلال القبض عليه، يحدث ما ليس في الحسبان.

في ظلّ تكاثر الحديث أخيراً عن الشرطة الفرنسية ومعاناة عناصرها خلال التظاهرات وحالات التصادم مع الشعب (٢٤ شرطياً فرنسياً انتحروا منذ بداية هذا العام في فرنسا)، يأتي الفيلم ليقدّم صورة شاملة عن مهام هؤلاء اليومية، وتعقّبهم للمخالفين في المناطق "الصعبة"، كما يُقال في فرنسا. يرصد الفيلم تحركاتهم في مناخ شديد التوتر والضغط. مع ذلك، لاينتصر لهم تماماً، اذ يريهم بعللهم وهشاشتهم وتجاوزاتهم ومزاجيتهم. حقيقة انهم يقفون ضد شلّة من الخارجين عن القانون والفوضويين وتجّار المخدرات والمتطرفين الذين يمارسون نشاطهم ويفرضون أفكارهم بعيداً من منطق الجمهورية، لا تمنحهم أي سبب تخفيفي لأفعالهم.

خلافاً لأي منطق، يفضّل الفيلم، ان يضع الكلّ، بلا استثناء، في سلّة واحدة، وهذا شيء مقبول سينمائياً وإن لم يكن مفهوماًسياسياً. لا صح أو خطأ في “البؤساء”. بمهذا المعنى فأي وقوف في صفّ الشرطي وإن كان محقاً (يعرف المخرج انه) لا يوفر الا فيلماً "فاشياً"، في حين إيجاد مسوّغات لممارسات المهاجرين، يصنع هو أيضاً، فيلماً أبله منفصلاً عن الواقع. لذلك، يجد الواحد منّا نفسه في صف الشرطي الحائر الذي يجسّد أرقى درجات الامتحان لإنسانيته، وسط الخراب الذي يشهد عليه.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم