السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

وداع استثنائي محلي وأممي لبطريرك الاستقلال الثاني الراعي: شدّ أواصر الوحدة وجمع الوطن كجبل لا تهزّه ريح

فرج عبجي
فرج عبجي
وداع استثنائي محلي وأممي لبطريرك الاستقلال الثاني الراعي: شدّ أواصر الوحدة وجمع الوطن كجبل لا تهزّه ريح
وداع استثنائي محلي وأممي لبطريرك الاستقلال الثاني الراعي: شدّ أواصر الوحدة وجمع الوطن كجبل لا تهزّه ريح
A+ A-

مباركا كان يوم ولادته، ومبارك يوم رحيله. فبعد البطريرك الماروني الكبير الياس الحويك، مؤسس لبنان الكبير، وبطريرك الاستقلال الاول انطوان عريضة، صار للكنيسة المارونية أقنوم ثالث هو بطريرك الاستقلال الثاني مار نصرالله بطرس صفير. بكركي بحجرها وناسها وزوارها بكت الخميس ناسكها، لكنها في الوقت نفسه فرحت وهلّلت لقديس عاش الزهد والتجرد والإيمان الصلب. أقلّ ما يقال عنه انه كان راهبا لبنانيا بسيطا في ثياب بطريرك. رحل بطريرك السلام، وفي وداعه اجتمع ابناء الكنيسة المارونية، لا بل ابناء الكنيسة كلها، لانه تخطى حدود طائفته، وكان في حياته لكل لبنان، وهذا ما أجمعت عليه الوفود التي جاءت من كل المناطق لوداعه. سياسيا، خصوم الامس وحلفاء اليوم جميعهم كانوا في وداعه، حتى من كانوا يخالفونه الرأي، كلهم جاؤوا لإلقاء النظرة الأخيرة على من قاد السفينة الى بر الامان ودفع الثمن غالياً ليوقف الحرب في لبنان، دون ان يحسب حساب الربح والخسارة، فالالوية لديه كانت لوقف إراقة دماء شعبه. عبق البخور ورائحته زنرت الصرح البطريرك الذي تحولت سماؤه الى غيمة بيضاء. نامت بكركي امس وباحتها دون ان تسمع صوت دعساته التي عبدت الطريق لاستقلال لبنان الثاني ولقيامة الانسان فيه، وان تتودد لهمساته التي كان يصلي من خلالها المسبحة يومياً.

انتهاء الاستعدادات لمراسم الوداع

على وقع الاناشيد الدينية والصلوات في كنيسة سيدة الانتقال، تواصل تقاطر المؤمنين والوفود الشعبية والسياسية من كل المناطق لوداع البطريرك. وتابع البطريرك مار بشارة بطرس الراعي تقبل التعازي في صالون الصرح في حضور عائلة الراحل والمطارنة من جميع من قصد عرين البطريرك صفير.

في الأولى بعد الظهر، توقف الراعي عن تقبل التعازي، وأقفلت كنيسة سيدة الانتقال كي يستعد الجميع لمراسم الدفن. وفي الخارج كان المنظمون الكنسيون والمدنيون خلية نحل لاستكمال الاستعدادات. وقد جهزت للمناسبة منصة كبيرة ملاصقة لمدخل بكركي الداخلي، عليها وضع المذبح، وكان مصنوعا من الفضة للدلالة على تقشف الراحل، وزيّن أيضا بباقات من الورود البنفسجية إجلالا للبطريرك ولرمزية اللون الى الآلام وفق الطقس الليتورجي الماروني، وخلفه وضعت خمسة أكاليل بنفسجية ترمز الى جروح المسيح. وفي الممر المؤدي الى المذبح وضع 14 صليباً، 7 من كل جهة، ترمز الى المراحل الاربع عشرة التي قطعها المسيح خلال درب الصليب، والى جانب كل صليب وضعت شمعة ترمز الى القيامة.

وقرابة الساعة الثانية، بدأت تصل الوفود الشعبية، وفي طليعتها، وفد من الجبل بقيادة النائب تيمور جنبلاط والمشايخ. الجبل بشيبه وشبابه زحف الى بكركي في تحية وفاء الى رجل صلب واستقلالي ومحب للسلام، وقامة وطنية تاريخية تعمقت جذورها في قلب الدروز في الجبل. ورغم توقفه عن تقبل التعازي، استقبل الراعي جنبلاط والمشايخ والوفد المرافق.

والوصول اللافت الثاني، كان لرئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي تزامن وصوله مع رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية، وكسر جعجع البروتوكول ودخل من المدخل الخلفي المخصص للمؤمنين في اتجاه المكان المخصص له ولعقيلته النائبة ستريدا جعجع.

اول الواصلين من تكتل "لبنان القوي": النواب الان عون وابراهيم كنعان وشامل روكز وقد اتوا بسيارة نائب كسروان التي قادها بنفسه. ثم رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية جبران باسيل.

وشارك في مراسم الدفن أيضا كل من وزير اوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان ممثلا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، السفير السعودي وليد بخاري ممثلا العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، الوزير محمد بن عبد العزيز الكواري ممثلا أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، القائمة باعمال الأردن وفاء الأيتم ممثلة العاهل الأردني عبدالله الثاني، السفير الفلسطيني اشرف دبور ممثلا الرئيس الفلسطيني محمود عباس، السفيرة كريستينا رافتي ممثلة رئيس قبرص.

الراعي: كان لنا قدوة

أخرج الجثمان من كنيسة الصرح، وحمل على الاكتاف وخرق الباحة بين الجموع المشاركة على وقع التراتيل، وكأنه عريس الكنيسة. وتقدم الجثمان البطريرك الراعي والمطارنة وخدام يحملون عصا البطريرك الراحل وصليبه وتاجه. وفي هذا الوقت، وصل رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري في السيارة نفسها، الى باحة الصرح، وكان آخر الواصلين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قبل بدء الصلاة.

وترأس الراعي مراسم الدفن بمشاركة بطريرك الروم الكاثوليك يوسف الأول عبسي، بطريرك السريان الكاثوليك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، بطريرك الأرمن الأرثوذكس آرام الأول كيشيشيان، بطريرك الروم الأرثوذكس يوحنا العاشر، البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، ممثل البابا فرنسيس رئيس مجمع الكنائس الشرقية الكاردينال ليوناردو ساندري، السفير البابوي المونسنيور جوزف سبيتري وعدد كبير من المطارنة والرؤساء العامين والرهبان والراهبات وممثلي الكنائس المختلفة.

وألقى الراعي عظة بعنوان "أنا الراعي الصالح، أعرف خرافي، وهي تعرف صوتي"، تناول فيها مراحل حياة الراحل "منذ لمع في الكهنوت، فعيّنه المثلث الرحمة البطريرك الكاردينال مار بولس بطرس المعوشي أمين سره سنة 1956، في أول عهده. وبفضل خصاله رأى فيه البطريرك المعوشي وجه الأسقف، فقدمه للسينودس المقدس في دورة 1961 فانتخبه مطرانا نائبا بطريركيا عاما، وهو في سنيه الإحدى والأربعين. ثم كان الساعد الأيمن للمثلث الرحمة البطريرك الكاردينال مار أنطونيوس بطرس خريش، كنائب بطريركي عام مع زميل منتخب ودعناه الأسبوع الماضي بكثير من الألم والأسى هو المثلث الرحمة المطران رولان أبو جوده. فقاد الثلاثة عملية احتضان المهجرين وسائر ضحايا الحرب اللبنانية المشؤومة التي اندلعت في 13 نيسان 1975، بعد شهرين من تنصيب البطريرك. وقادوا المقاومة الروحية والاجتماعية والسياسية والديبلوماسية داخليا وفاتيكانيا ودوليا، بوجه الحرب الأهلية ومخططات الهدم".

وأضاف: "عندما انتخب بطريركا في نيسان 1986، وهو لم يطلب البطريركية ولا سعى إليها بل أعطيت له مع مجد لبنان، كان على أتم الاستعداد لحمل صليبها، بفضل ما اكتنزت شخصيته من روح رئاسي وراعوي وقيادي. وراح للحال يعمل على إسقاط الحواجز النفسية ثم المادية، وشد أواصر الوحدة الوطنية وأجزاء الوطن، وإعادة بناء الدولة بالقضاء على سلطان الدويلات، وتعزيز العيش المشترك الذي كان يعتبره جوهر لبنان ورسالته الحضارية. ذلك أن لبنان هو البلد الوحيد في المنطقة الذي يتساوى فيه المسلم والمسيحي على قاعدة الميثاق الوطني والدستور".

وتابع:" تأتي اليوم الشهادات عن هذا البطريرك الكبير من كل فم وعبر جميع وسائل الإعلام. فالكل يجمع على أنه "خسارة وطنية". ورأوا فيه بطريرك الاستقلال الثاني، والبطريرك الذي من حديد وقدّ من صخر، وبطريرك المصالحة الوطنية، والبطريرك الذي لا يتكرر، المناضل والمقاوم من دون سلاح وسيف وصاروخ، وصمام الأمان لبقاء الوطن، وضمان لاستمرار الشعب. وأنه رجل الإصغاء، يتكلم قليلا ويتأمل كثيرا، ثم يحزم الأمر ويحسم الموقف. وكجبل لا تهزه ريح، أمديحا كانت أم تجريحا أم رفضا أم انتقادا لاذعا. فكان في كل ذلك يزداد صلابة. أما الشهادة الناطقة الكبرى فهي الوفود من جميع المناطق اللبنانية ومن الخارج التي ما فتئت تتقاطر للتعزية والصلاة منذ صباح الأحد، والحشود التي لا تحصى، وقد وقفت لوداعه على الطرقات في خط متصل من مستشفى أوتيل ديو إلى بكركي. هذا الحزن العارم الذي عاشه اللبنانيون، ترجمته الحكومة اللبنانية مشكورة بإعلان يوم أمس يوم حداد وطني تنكس فيه الأعلام، واليوم يوم إقفال عام للمشاركة في وداع هذا الراعي المثالي".

وتحدث الراعي عن خبرته مع البطريرك الراحل قائلا: "لقد شاركته معاناته في السنوات الأربع الأول من بطريركيته كنائب بطريركي عام مع المثلث الرحمة المطران رولان أبو جوده. وقد لاقى فيها، على التوالي ومنذ البداية، مرارة الرفض والتهميش والإساءة والاعتداء الجسدي والمعنوي، بالإضافة إلى ويلات الحرب والضياع. فكان لنا قدوة في صبره وصمته وصلاته وغفرانه وقوله: "لن أكون الحلقة التي تنكسر". وهو المؤمن بأن الصليب يؤدي حتما إلى القيامة. وهكذا كان، وإذا بالوطن ينجو، وبالجميع يعودون للإلتفاف من حوله وسماع صوت هذا الراعي. فانطبقت عليه الآية الإنجيلية: "سينظرون إلى الذي طعنوه" (يو27:19). وفهمنا أكثر فأكثر كلمة بولس الرسول: "لو لم يقم المسيح، لكان إيماننا باطلا، وتبشيرنا باطلا، ولكنا أمواتا في خطايانا" (1كور17:15). بهذا الإيمان الصامد على صخرة الرجاء، راح يملأ الفراغ السياسي، مجاهدا من أجل تحرير أرض لبنان من كل احتلال ووجود عسكري غريب، وشعاره مثلث: "حرية وسيادة واستقلال"، وهو صدى لصوت أسلافه البطاركة العظام، بدءا من خادم الله البطريرك الياس الحويك أبي لبنان الكبير، والبطريرك أنطوان عريضه صانع الإستقلال وضامن الميثاق الوطني".

وأضاف: "شاء بطريركنا الراحل لقاء قرنة شهوان إطارا جامعا للقوى المسيحية المؤمنة بسيادة الوطن، وصدى لصوته في المحيط السياسي. بهذا الهدف كان على تنسيق دائم مع القديس البابا يوحنا بولس الثاني الذي تبنى قضية لبنان بنداءاته ورسائله وديبلوماسية الكرسي الرسولي، وعقد جمعية خاصة لسينودس الأساقفة الروماني" من أجل لبنان سنة 1995، وأصدر إرشاده الرسولي موقعا في بيروت بتاريخ 12 أيار 1997، وهو بعنوان: "رجاء جديد للبنان"؛ وجالس رؤساء الدول الكبرى من مثل الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وروسيا والأمين العام للأمم المتحدة، فضلا عن لقاءاته مع بعض أمراء دول الخليج ورؤساء دول آخرين.

ومع كل ذلك ظل شغله الشاغل شأن كنيسته المارونية والكنائس في لبنان وبلدان الشرق الأوسط".

البابا: رجل حرّ

ثم منح البابا فرنسيس، في كلمة ألقاها باسمه ساندري، البركة الرسولية "لكل عائلة صفير وأقربائه وكل الاشخاص الذي رافقوه لسنيه الأخيرة وكل الذين يشاركون في مراسم هذه الجنازة". وتقدم بالتعازي لأبناء الكنيسة المارونية "التي رعاها لسنين عديدة بكل وداعة وبكل حب، رجل حر شجاع، هو الكاردينال صفير الذي قام برسالته بظروف مضطربة مدافعا غيورا عن سيادة واستقلال بلده وسيبقى وجها لامعا في تاريخ لبنان".

وبدوره منح الرئيس عون البطريرك الراحل الوشاح الاكبر من وسام الاستحقاق اللبناني تقديرا لما قدمه للبنان.

وبعد انتهاء صلاة الدفن، قبّل البطريرك الراحل بنعشه المذبح للمرة الاخيرة على الارض، قبل أن ينتقل الى لدن خالقه حيث الذبيحة السماوية. ورافق البطريرك الراعي والبطاركة المشاركون في الصلاة وعدد كبير من الاساقفة الجثمان الى مقبرة البطاركة في الصرح البطريركي. 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم