الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

هل تعيد الأزمة المالية والسياسية إردوغان للاهتمام بالداخل؟

مهى سماره
هل تعيد الأزمة المالية والسياسية إردوغان للاهتمام بالداخل؟
هل تعيد الأزمة المالية والسياسية إردوغان للاهتمام بالداخل؟
A+ A-

تتجمّع الغيوم وتتراكم الأزمات على الرئيس رجب طيب إردوغان داخلياً وخارجياً.

هزيمة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة كشفت تراجع شعبية الحزب في المدن الرئيسية الكبرى حيث توجد النخب التركية المتعلمة والمهنية والجامعية والشبابية والعلمانية والفنية أي الشرائح الأكثر إنتاجاً وحيوية وانفتاحاً وانخراطاً في العولمة والتقدم العلمي والتقني.

إسطنبول وأنقرة وإزمير وأنطاليا منحت أصواتها للمعارضة وخذلت حزب العدالة والتنمية لأول مرة في 25 سنة وحصرت شعبيته في الأناضول والأرياف والبيئات المحافظة والمتدنية والفقيرة.

خسارة اسطنبول تحديداً تعدّ ضربة شخصية ورمزية لزعامة إردوغان ونهجه، خصوصاً أنها المدينة التي أطلقت مسيرته الحزبية والسياسية وبنت مجده ورصيده، وهو الذي تغنّى بها يوماً بقوله "مَن يفوز ببلدية اسطنبول يستطيع أن يفوز بحكم تركيا".

بسبب أهميتها ورمزيتها خاض إردوغان معركة اسطنبول بنفسه لمصلحة مرشحه علي يلدريم. وعرض منصب الرئاسة وهيبة الدولة إلى الانتقاد. تجاوز الشكليات وتخطّى الأصول والأعراف بقطع الطريق أمام مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو (48 سنة). بعد إعلان النتائج الأولية طلب من لجنة الإشراف على الانتخابات إعادة فرز الأصوات. وخلال 17 يوماً من الفرز وإعادة الفرز حسمت اللجنة فوز أوغلو وسلّمته وثيقة رسمية تقرّ بفوزه. إردوغان لم يستسلم وقدّم طعناً استثنائياً طالباً إلغاء نتائج الانتخابات في اسطنبول وإعادتها. مكرّراً سابقة الانتخابات النيابية في 2015 عندما فاز حزب الشعوب الديموقراطي بكتلة من 89 نائباً حرمت حزب العدالة والتنمية من الحصول على الأغلبية لتأليف حكومة بمفرده.

بعد سنة أبطل إردوغان هذه الانتخابات ودعا إلى انتخابات جديدة في 2016 بعد شنّ حملة شعواء لإثارة المشاعر القومية ضد الأكراد أعادت حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بالائتلاف مع حزب الحركة القومية. لم ينتظر سنة هذه المرة بل أسابيع فأقرت اللجنة المشرفة على الانتخابات بإعادة الانتخاب في اسطنبول وكان له ما أراد.

تفاعلات معركة اسطنبول مرشحة لمضاعفات وتطورات قد تظهر مع الوقت، إذ تعتبر نقطة تحوّل في مسيرة إردوغان العكسية وكرة ثلج قد تكبر مع زيادة التململ والنقمة من الرئيس وأساليب حكمه. إنها بداية التغيير لملايين الشباب الذين طالبوا بدماء جديدة وعقلية جديدة وتجديد الأحزاب من القيادات المؤهلة.

صرخة الأجيال الصاعدة تزامنت مع نداء وزير الخارجية ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو الذي حمل إردوغان شخصياً مسؤولية هزيمة الحزب في الانتخابات الأخيرة وخطأ تحالفه مع حزب الحركة القومية والأزمة المالية والاقتصادية الراهنة. ويتردّد أن أوغلو، منظر العثمانية الجديدة وصغر مشاكل، والرئيس السابق عبدالله غُل في صدد تأليف حزب جديد بعد اختلافهما مع إردوغان.

قد لا يكون التغيير على نار حامية، في الظروف الحاضرة وخصوصاً أن إردوغان أجرى تغييرات دستورية تمكنه من البقاء في السلطة حتى 2029، كما أنه من المبكر التعويل على أكرم إمام أوغلو كبديل محتمل وهو الشخصية الشابة والمغمورة بانتظار إدارته لبلدية اسطنبول التي يقطنها 16 مليون نسمة.

إنما الالتفاف حول المعارضة لم يأتِ من فراغ، إذ اظهر إردوغان في السنوات الثلاثة الأخيرة رعونة وعنجهية وانفراد في الرأي كادت تمزّق حزب العدالة والتنمية، نزعته الفطرية للسلطة وضيق صدره للانتقاد وسرعة غضبه وانفعالاته وهوسه بالرئيس القوي والدولة القوية... قوّت النزعة الاستبدادية عنده والتي ظهرت جليّة بعد العملية الانقلابية في تموز 2016.

ردّة فعله العنيفة والشرسة للمؤامرة أدّت إلى تسريح مئات الألوف من وظائفهم في الدولة والقضاء والجامعات والمدارس والجيش والشرطة... هذه الإجراءات القاسية زجّت أيضاً 120 صحافياً في السجن وكمت أفواه الإعلام المحسوب على المعارضة، مما زاد من الشرخ الاجتماعي ورسخ النهج الاستبدادي الديكتاتوري الذي أثار سخط المجتمع المدني التركي المتمسّك بالحياة المدنية العلمانية الديموقراطية القائمة على احترام الحريات وحقوق الإنسان أي قيم الجمهورية التركية الحديثة التي أسسها أتاتورك والذي يريد إردوغان إبدالها ونسفها. هذه الانتهاكات تمّت في ظل قانون الطوارئ وإعادة العمل بقانون الإعدام مما أثار انتقادات الخارج لا سيما دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الاطلسي "الناتو" التي تخوّفت من القضاء على الديموقراطية وأبدت تحفظات على التعاون مع أنقرة، بعد أن افتعل إردوغان مشاكل مع كل من ألمانيا وهولندا وفرنسا.

تبنّى إردوغان إيديولوجية الإسلام السياسي وتورّطه في دعم جماعات الإخوان المسلمين في أكثر من بلد أقحم تركيا في صراعات متعددة ومتناقضة، تركيا التي كانت حتى الأمس القريب نموذجاً للاعتدال الإسلامي والنجاح الاقتصادي ومثلاً يُحتذى به في الدول العربية والإسلامية لتقليدها بعد تجربة طويلة وناجحة في التوفيق بين العلمانية والإسلام والديمقراطية، تركيا في عهد أردوغان فقدت الصورة الذهبية والدور المتألق بفضل طموحات أردوغان وأحلامه غير الواقعية ببناء إمبراطورية تمتدّ من أواسط آسيا إلى البحر الأحمر، وإطلاق هراء العثمانية الجديدة.

حسابات إردوغان الخاطئة في تضخيم موقع تركيا ودورها ونفوذها الإقليمي بالتحالف مع جماعات الإخوان المسلمين في مصر وقطر وليبيا وتونس والسودان وغزة وسوريا والعراق أدخلت تركيا في نادي الدول الشمولية المعزولة وافتعلت تحديات فكرية وعقائدية وحياتية لنصف الشعب التركي الذي يرفض اعتناق تفكير الإخوان المسلمين وطريقة عيشهم.

راهن إردوغان على الإخوان المسلمين في مصر وتبنّى الرئيس محمد مرسي الموجود في السجن وطرح تركيا بديلاً من دور مصر كزعيمة العرب مما حال دون قيام علاقات طبيعية بين أنقرة والقاهرة في عهد خليفته الرئيس السيسي. أقامت تركيا قاعدة عسكرية في قطر ووثقت علاقتها مع الحمديين والداعية الاسلامي يوسف القرضاوي مما أدّى إلى قطيعة سعودية خليجية لتركيا وامتناع قضاء السيّاح السعوديين والخليجيين اجازاتهم في اسطنبول. تحالفه مع قطر وتدخله في ليبيا بدعم ميليشيات الإخوان المسلمين في طرابلس أثارت سخط الليبيين والأتراك معاً. عقد اتفاقات عسكرية واستخبارية مع نظام عمر البشير في السودان وبناء قاعدة بحرية في سواكن على البحر الأحمر متحدياً كل من مصر والمملكة العربية والسعودية.

فتحت تركيا أبوابها أمام الجماعات التكفيرية في حروب سوريا والعراق وأمّنت لأفواج الجهاديين الذين تدفقوا من أكثر من 50 بلداً الممر والمقر والبنوك لايداع اموالهم المسروقة من الخوات والخطف وتهريب النفط، وهي تدرك تورّط هؤلاء في أعمال إرهابية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية مُدانة أخلاقياً وقانونياً ودولياً.

لعبت تركيا ورقة النازحين السوريين، استقبلتهم أولاً وفاوضت لاحقاً على تهجيرهم إلى أوروبا. وافتتحت بإزاء المساومة لوقفها مقابل ثلاثة مليارات دولار.

تقاسمت تركيا النفوذ في سوريا مع كل من إيران وروسيا وتصرّفت كدولة إقليمية كبرى تطمح لاحتلال السيطرة على أراضٍ جديدة كما جرى للاسكندرون وشمال قبرص. منى أردوغان النفس باسترجاع حلب إلى الحضن التركي ووضع اليد على إدلب حيث دخل الجيش التركي بعتاده وعديده وفوضى الجماعات المسلحة التي درّبها وسلّحها وموّلها لتكون ورقة في يده ووكيله عند بحث الحل النهائي السوري.

لعب إدروغان أوراقه السورية بازدواجية ملحوظة. لم يستسغ الوجود العسكري الروسي في 2016 ولا التمركز في قاعدة حميميم الجوية فأسقطت تركية طائرة حربية روسية أدّت إلى توتر العلاقات مع موسكو مما اضطرها لاحقاً إلى الاعتذار رسمياً خدمةً لمصالحها التجارية والنفطية والسياحية. اشترك إردوغان في اجتماعات أستانة مما قوّى العلاقات الشخصية مع بوتين وفتحت مجال تزوّد تركيا بأسلحة روسية مثل منظومة صواريخ "أس – 400" المفروض أن تتسلّمها أنقرة في حزيران أو تموز القادمين.

بالمقابل تتمتع تركيا بعلاقات تقليدية وتاريخية جيدة مع الولايات المتحدة الأميركية، فهي عضو في الناتو منذ 1951، ولأميركا قواعد عسكرية في أنجيرليك وغيرها حيث ترقد طائرات ومقاتلات أميركية. التعاون العسكري بين البلدين أدخل تركيا شريكاً في الصناعة الحربية الأميركية. قدوم خبراء وجنود أميركيين وغربيين إلى شمال شرق سوريا (التحالف الدولي) لمحاربة داعش ومراقبة آبار النفط والغاز والوجود الروسي أثارت قلق وفضول أنقرة التي تخوّفت من دعم التحالف الدولي إلى قوات سوريا الديموقراطية الكردية وإقامة حكم ذاتي كردي مؤيّد أميركياً وأوروبياً مكافأة لدور الأكراد في محاربة داعش. إردوغان الذي رفع شعار سقوط بشار الأسد منذ بدء الحرب السورية غيّر رأيه، ويساوم الآن على بقائه شرط عدم السماح لإقامة كيان كردي.

مع اشتداد الصراع الدولي والإقليمي في سوريا كانت تركيا تتأرجح في تأييد واشنطن حيناً وتأييد محور موسكو طهران أحياناً أخرى، مارست سياسة الأيادي الممدودة للجميع ضماناً لدورها ومصالحها المشروعة التي حدّدتها بضمان حدودها والحؤول دون قيام إقليم كردي مترابط في غرب وشرق الفرات.

طلبت تركيا من واشنطن تزويدها بمقاتلات "أف – 35" وبموجب التعاون العسكري بينهما كان مفروض أن تساهم تركيا جزئياً في صناعة هذه المقاتلات. واشنطن اشترطت إلغاء تركيا صفقة منظومة الصواريخ الروسية "أس – "400، لأنه لا يجوز بحسب شروط الناتو، أن توجد "أف – "35 على الأرض التركية مع "أس – 400" مما يعطي الروس إمكان الاطلاع على أسرار تقنية المقاتلات. وحسم وزير الدفاع الأميركي باتريك شيناهان الموضوع بأن أميركا لن تسلّم المقاتلات لأن تركيا ماضية بالصفقة الروسية.

إدارة ترمب وأعضاء الكونغرس من جمهوريين وديموقراطيين اتفقوا على تحذير تركيا وتهديدها بأنه عليها أن تختار مع من تريد البقاء حليفاً في الناتو ومواصلة التركيز على الغرب أو الابتعاد عنه.

بند آخر يقضّ العلاقات الأميركية - التركية هو مساندة تركيا لإيران في موضوع العقوبات حيث تتهم أنقرة بأنها تشكّل حديقة أمامية للتمويه عن هذه العقوبات والالتفاف عليها بتأمين تسهيلات مالية لطهران عبر تهريب النفط وبيعه على شواطئها. تركيا هي إحدى الدول المعفاة من العقوبات في الحقبة الأولى مثل الصين والهند والباكستان. إلا أن قرار واشنطن بتصغير النفط الإيراني بعد 2 أيار الماضي وضعفت تركيا في مأزق بادرت إلى إرسال وفد وزاري رفيع إلى واشنطن لتمديد فترة الإعفاء ليتسنى لها شراء النفط الإيراني للاستهلاك المحلي. كما طلب الوفد التركي السماح لأنقرة باستعمال الليرة التركية بدلاً من الدولار. كما تفعل الصين والهند وبعض الدول الأوروبية تسديداً لسعر النفط. مسألة الابتعاد عن استعمال الدولار كعملة التجارة العالمية موضوع مطروح لكن أميركا تتحكّم به وليس من السهل التفريط به.

عاشت تركيا لقرون جسراً بين الشرق والغرب وبعهد أردوغان تحوّلت إلى ملتقى طرق النفط والغاز الإيراني الروسي والاسرائيلي إلى أوروبا والاسواق العالمية... تأمين حاجة تركيا الاستهلاكية من النفط تتكفّل به بالدرجة الأولى روسيا ثم إيران. المعطى الجديد الذي بدأ يتسرّب في الإعلام أن أميركا تفكّر بالتخلّي عن الموانئ التركية واستبدالها بالموانئ اليونانية لإيصال النفط إلى أوروبا والاسواق العالمية. ويتردّد أنه سينفتح خط جديد للنفط والغاز بين كل من إسرائيل وقبرص واليونان ثم ايطاليا. ويبدو أن تركيا على علم به إذ طالبت أخيراً بحق قبرص التركية غير المعترف بها دولياً باستثناء أنقرة للتنقيب عن النفط من جهتها أيضاً.

ووسط هذه المجموعة من المشاكل والتعقيدات الداخلية والخارجية تعيش تركيا أزمة مالية واقتصادية حادّة بدأت في الجزء الأخير من 2018 بعد انهيار سعر صرف الليرة التركية وخسارة 50% من قيمتها ولا تزال. وبروز هذه الازمة أدّى إلى انتقال رساميل واستثمارات كبرى إلى الخارج. فقدان الاحتياط التقدي الأجنبي انعكس على الارتفاع المفاجئ للاسعار ووصول البطالة إلى 14% والتضخم إلى 20% ويتهم أردوغان بممارسة ضغوط على البنك المركزي مما أفقد المستثمرين الثقة بالبنك لحماية الليرة. هذا فضلاً عن تهم الفساد والمحسوبية وتبديل الأموال والإثراء غير المشروع لأفراد من عائلة أردوغان والمقرّبين منه في الحزب والدولة.

إن ضرب الاقتصاد أمر موجع لأردوغان وصورته، إذ انجازه المميز والوحيد طوال عقدين كان الازدهار الاقتصادي الذي حققته تركيا في عهده عندما بلغت نسبة النمو نحو 8%.

هل تؤدي الأزمة المالية الحادّة معطوفة على الفوضى السياسية الداخلية إلى إجبار أردوغان للالتفاف على تنظيم بيته وحزبه بدلاً من السعي لإقامة زعامة إقليمية إسلامية؟


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم