الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

حقوق الإنسان بين اللغة المحايدة والمصالح الكبرى

منى فياض
A+ A-

لم نتفاجأ أن تكون أولى مطالب التظاهرات السودانية التي انطلقت منذ نهاية العام الماضي هي إطلاق سراح المعتقلين. لقد تحولت البلدان العربية إلى سجن كبير يقمع الحريات ويكمم الأفواه ويصادر الحقوق ويعيش في ظل قوانين الطوارئ. هذا إذا لم يتعداها إلى حالة الاستثناء؛ أي حكم المستبد الأوحد خارج نطاق أي قانون.

اندلعت الثورات في هذا الإطار من مصادرة الحريات، وعقب أفعال تأسيسية رمزية اعترضت على ذلك القمع تحديدا. تراوحت بين حرق بوعزيزي نفسه في تونس اعتراضا على سلوك الشرطية مرورا بحادثة تعذيب وقتل خالد سعيد التي اتهم بها رجال الأمن في مصر، إلى تعذيب أطفال درعا في سوريا.

وفي هذا السياق، أقامت مؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث، على مدى يومين، ندوة بعنوان "السجن المصري ثقافة وممارسات". وبما أن الندوة جرت في "سبيل منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية"، وكون المشاركين متعددي الاختصاصات والاهتمامات وينتمون إلى عدة بلدان، كان من البديهي أن يتوسع النقاش فيشمل ميادين ومحاور وتجارب عدة منها البحثي ومنها الفني ومنها النضالي.

نعلم جميعا الدور الإيجابي الذي لعبته وتلعبه منظمات حقوق الإنسان في تاريخنا الحديث، بعد أن أكدت شرعة حقوق الإنسان أن هذه الحقوق مطلقة تتجاوز الأمكنة والأزمنة والخصائص الثقافية والعقائد الدينية والأنظمة السياسية والاجتماعية. فاكتسبت المنظمات شرعية قانونية؛ فمن دون نشاط تلك المنظمات لما أمكن الحديث عن وضعية السجون والسجناء المنسيين والانتهاكات الممارسة بحقهم.

لكن للأسف، وبعد أن تطور الموقف من المناضل الحقوقي بعد الثورة مباشرة في مصر فتحسنت النظرة إليه ولم يعد الناشط في هذا المجال "عميلا" كما كان قبلها؛ عادت الآن إلى الواجهة نغمة أن المعارض، حتى ذلك المنفي أو الهارب إلى الخارج، هو خائن وأن ليس من حقه التدخل في شؤون بلاده لأن ذلك يعد خيانة.

هناك إذا تدهور ملموس للحريات والحقوق بعد التحسن الذي طرأ. ذلك أن الأنظمة صار لديها مناعة وحصانة ضد الجمعيات الحقوقية وأساليبها. كما أنها أوجدت منظمات رسمية موازية من المفروض أنها تدافع عن حقوق الإنسان، لتقوم مقام تلك المغضوب عليها. لكننا نعلم أن دورها يظل شكليا ولذر الرماد في العيون لأنها تلعب دور الوسيط غير المحايد بين المنظمات غير الحكومية والمساجين. وذلك للتغطية على ممارسات الأنظمة تجاه المساجين وإخفاء الانتهاكات من أجل تهدئة مطالبات المنظمات الحقوقية الدولية المتابعة لبعض الحالات.

وفي غياب خطاب معارض في مصر كون الإعلام ممسوكا ومسيطرا عليه بالكامل؛ صارت الحقوق التي يسمع عنها الناس عموما تقتصر على اللبس والخلع والتحرش والمثلية الجنسية والخروج عن الأعراف المتعلقة بالجنس.

من هنا خفتت فعالية هذه المنظمات وتراجع دورها الذي صار يكتسب صبغة روتينية. وظهر مفهوم "ناشطون في العمل الحقوقي"، الذي أصبح هو الوحيد المتاح للعمل في مواجهة قمع النظام. وصار على الناشط الحقوقي في شؤون الانتهاكات أن يتعلم اللغة المتعارف عليها حاليا في كتابة التقرير الحقوقي، بالإضافة إلى استخدام اللغة الإنكليزية في كتابة التقارير التي تتطلب من الناشط الحقوقي الدخول في إطار منظومة ثقافية ولغوية محددة تتبع مرجعيات سلطة ثقافية غربية، تختلف عن مرجعياته الثقافية.

نجد أن لغة التقارير تظل حبيسة إطار محدد لا تخرج عنه. فهي تكتب بلغة محايدة وغير مؤدلجة سياسيا. والمقصود أن تكون لغة غير فعالة تستخدم ألفاظ مناشدات وإدانة واستنكار. إنها لغة فاترة يفرغها فتورها من حمولة الشحنات العاطفية والانفعالية؛ ما يضعف تأثيرها. كما أن لهذه اللغة استعمال آخر يفصل بين من يعاني المشكلة وبين من يعملون لأجله. فلقد تم إدخال وسيط بينهم هو الناشط من أجل حقوق الإنسان. يأخذ المشكلة ويعبر عنها بأسلوبه ولغته؛ فتفقد دورها السوي وتفقد وظيفتها لتصبح معيارية.

وهذا ما يمكن اعتباره آلية ضبط تستخدم عملية إفراغ الخطاب الحقوقي من مضمونه الأيديولوجي وتعمل على فصل الأمور عن بعضها البعض؛ فيفصل بين أنواع الحقوق ويتحول الاعتقال لإخفاء قسري ويتركز الاهتمام على حق معين لفئة منها دون الاهتمام ببقية الحقوق، ما يمنع المشكلة من الخروج عن سياسة الضحية والجلاد. يصبح على المعنيين إثبات معاناتهم فتغيب فكرة أن لديهم حقوقا ينبغي احترامها، ما يُنتج تزاحما بين الاستضعاف والمظلومية. إن التركيز على إبراز المظلومية بدل المطالبة بانتزاع الحق هو أحد العوارض التي تطفو مع اشتداد الظلم.

كما ينبغي عدم إغفال التطور في اللغة الحكومية وفي الخطاب، ليجعلها متسقة مع الخطاب الحقوقي؛ كأن يستخدم حجة أن حقوق الإنسان ليست عالمية وأن لدينا خصوصيات ثقافية ودينية علينا احترامها. وهناك خطاب أكاديمي يستخدم هذا النوع من الذرائع.

كل ذلك على خلفية المشهد المعقد الذي تتزاحم فيه الدول الغربية، حاملة شعار حماية القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في منطقتنا وفي العالم. فنفس هذه الدول التي تستثمر في حقوق الإنسان؛ تعمل على الاستثمار فيما يسمى بـ "الاستقرار". وتعمل في هذا الإطار على تسليح الأنظمة للمحافظة على الاستقرار الذي يعني مكافحة منظمات الإرهاب النشطة؛ ناهيك عن حفظ الحدود ومنع موجات الهجرة لطلب اللجوء إلى الغرب. وهي مخاطر يشكل وجودها أفضل غطاء وذريعة لممارسات الأنظمة القمعية.

من هنا صمت الحكومات الغربية عن الممارسات مقابل حفظ الحدود ومنع اللجوء ومكافحة الإرهاب. فتعمل على تقوية وتسليح الجيوش والأجهزة الأمنية نفسها التي تمارس الانتهاكات وتضطر للتغاضي عنها.

بالإضافة إلى أن من مصلحة الحكومات الغربية حماية مصالحها في مجال تسويق الأسلحة وبيعها في سياق تجارة السلاح العالمية. ولا يغيب عن بالنا موقف الحكومة الألمانية من موضوع بيع الشركات الألمانية لغاز الخردل وسائر المواد الكيماوية السامة التي استخدمها الأسد ضد شعبه؛ فكان ردها أن هذا متعلق بحرية التجارة ولا يمكنها التدخل.

الأمر الذي يعطي الانطباع وكأنها (الحكومات الغربية) تستخدم حقوق الإنسان كمضاد حيوي لما يخرج عن السيطرة في ممارسات الأجهزة الأمنية؛ كالمبالغة في التعذيب أو انفضاح أمر.. ما يشكل تخطيا لعتبة التغاضي والتسامح المقبولتين. ينتج عن ذلك غياب الضغط المستمر والعمل فقط على حالات خاصة وفردية.

يوجد هنا جدلية وميزان قد يستمران إلى ما لا نهاية: استثمار متواصل في موضوع حقوق الإنسان ولكن مع ضبط مؤسساته العاملة كي لا تخرج عن الإطار المرسوم لها بحيث تصبح نداءاتها روتينية مكررة دون فاعلية.

نشر ايضاً على موقع قناة الحرة.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم